تركي بن رشود الشثري
«يبني الإنسان بيوتاً لأنه يعرف أنه حي لكنه يكتب كتباً لأنه يعلم أنه فانٍ وهو يعيش ضمن جماعات لأن لديه غريزة التجمع لكنه يقرأ لأنه يعلم أنه وحيد وهذه القراءة هي صحبة له لا تحل مكانها صحبة أخرى وهي لا تقدم له أي تفسير قطعي حول مصيره لكنها تنسج شبكة متينة من التواطؤات بينه وبين الحياة»
بهذه الكلمات ختم دانيال بناك كتابه (متعة القراءة).
كنت في بداياتي القرائية ألزم نفسي بقراءة كامل الكتاب حتى ولو لم يكن كتاباً جيدا ولكنني تخلصت من هذه العادة، وقد عَنْوَن دانيال بناك أحد فصول كتابه (متعة القراءة) بعنوان «الحق في القفز عن الصفحات» أيضاً بالنسبة لأي قارئ لا يلزم أن تقرأ الكتاب من الغلاف إلى الغلاف هناك إحصائيات وجداول وتفاصيل في تخصصات وحتى الروايات يوجد بها استطرادات قد لا تروق وسرد لملاحم قديمة وتفاصيل لأدوات صيد أو محتويات ودهاليز قلعة تاريخية قد لاتهمك، كذلك عَنْوَن دانيال بناك أحد فصول كتابه (متعة القراءة) بعنوان «الحق في عدم إنهاء كتاب» قال في بدايته هناك ستةٌ وثلاثون ألف سبب لذلك ؟!
طبعاً قد يكون لديك في المكتبة كتاب عظيم لم تكمله لأن مستواه عالٍ جداً وهو اليوم مناسب لك ابحث في مكتبتك عن أمثال هذا الكتاب وعد إليه فثم الكنز الثمين، وعنون أيضا بـ «الحق في إعادة القراءة»، نعم سواء كامل الكتاب أم مراجعة الفوائد التي سبق تقييدها لماذا لا تضع قائمة بالكتب التي أثارت فيك الحماسة وأشعلت فيك الشغف لتقرأها مرة أخرى، هناك حكمة قديمة تتحدث عن الذي لا يجيد الغطس في الكتاب مرتين وكلنا كذلك فذهول المرة الأولى ومفاجأة المرة الأولى من الصعب أن تتكرر.
مقالات القراءة متنوعة فبعضها يكون من أجل التشجيع على القراءة وتعداد فوائدها وبعضها من أجل بيان أنواع الكتب وتصنيفها وبعضها في طريقة اختيار الكتاب واقتناء الكتب وبعضها في تجربة في القراءة وبعضها في كيف نقرأ ؟
كيف نقرأ ؟ سؤال عميق ويمتد لعدة مسارات مسار القارئ المبتدئ - المتوسط - المتقدم - القارئ المختص - القراءات الفكرية - النقدية - الشرعية - الاجتماعية ...إلخ.
أسئلة القراءة ثلاثة:
- لماذا نقرأ ؟
- ماذا نقرأ ؟
- كيف نقرأ ؟
ولابد من الإجابة عن السؤال الأول قبل أن ندلف إلى السؤالين التاليين، لذلك حرص العلماء على الترغيب في العلم وصنفوا في ذلك مفرداً أو مضموماً (الجامع في بيان العلم وفضله لابن عبد البر وشرح حديث أبي الدرداء «من سلك طريقاً...» وفضل علم السلف على الخلف لابن رجب وكتاب العلم في كتب الحديث ومقدمات الكتب أيضاً كمقدمة المجموع للنووي وغيرها الكثير).
بطبيعة الحال قد لا يكون هذا المقال للترغيب في القراءة بقدر ما هي محاولة لإعطاء مدخل مختصر لطريقة القراءة وفهم معنى هذا الفعل ألا وهو القراءة ومن يصلح لذلك.
يبتدأ دانيال كتابه متعة القراءة بقوله (لا يتحمل فعل «أقرأ» صيغة الأمر وهو اشمئزاز تشاطره إياه عدة أفعال أخرى كفعل «أحبَّ» وفعل «حَلَم»).
ويعني بذلك أنك لا تستطيع أن تطلب من أحد أن يقرأ كما لا تستطيع أن تطلب منه أن يحب أو أن يحلم ليلاً بمعنى أن القراءة فعل متفرد وحالة نفسية خاصة وعلاقة بالكتاب من ذلك النوع المتسامي والذي لا يقبل الوسطاء.
يقول غوستاف فلوبير في رسالة لأحد القارئات (لا تقرئي كما يقرأ الأطفال لأجل المتعة أو كما يقرأ المتفائلون لأغراض التعليم لا اقرئي لإنقاذ حياتك).
ويقول البرتو مانغويل في كتابه فن القراءة (يمكن لكتاب أن يجعلنا أفضل وأكثر حكمة) .
ويقول أيضاً في نفس الكتاب (القراءة ذلك النشاط الإبداعي الذي يجعلنا من كل الأوجه إنسانيين).
وأما دانيال فيقول (فكرة أن القراءة «تؤنسن الإنسان» صحيحة في مجملها حتى لو عانت أحياناً من بعض الاستثناءات المزعجة فلا شك أننا نصبح أكثرُ «إنسانيةً» بقليل، المقصود بذلك أننا نصبح أكثرُ تضامناً بقليل مع الجنس البشري أي نصبح أقلُ توحشاً).
يقول هذه المقولة صحيحة (أن القراءة «تؤنسن الإنسان») حتى لو عانت أحياناً من بعض الاستثناءات المزعجة فبالفعل البعض لا يزكو بالقراءة بل تضره لأسباب:
منها عدم قبول المحل فمن الناس من لا يصلح للثقافة لذلك قالوا: (لا تعلموا أبناء السوقة الأدب).
وبعضهم لا يحسن استقبال العلم ولا وضعه في مكانه الصحيح.
والعلم مثل المال ومثل القوة ومثل السلطة يؤثر فيها طريقة التعاطي فليست مشكلة، أن تكون ثرياً أو قوياً أو ذا سلطة ولكن المذموم ما ورد في القرآن {كَلَّا إِنَّ الْإِنسَانَ لَيَطْغَى أَن رَّآهُ اسْتَغْنَى} فإنه لو لم ير أنه استغنى عن ربه لما طغى وإذا لم يطغ فالغنى ليس مذموم (نعم المال الصالح للرجل الصالح) فهذا رجل مكونه النفسي ومحيطه الاجتماعي ينجع فيه كثرة العَرَض فيبذل في كرم وينفق في اقتصاد ويتعامل في تواضع .
جاء في الحديث (يحمل هذا العلم من كل خلف عدوله) بعضهم قال الخلف جهلة بل أعداء للعلم بدليل وقرأها (عدوُّ له) وعلى كل حال جاء في رواية (ليحمل) فهو أمر للعدول ومن يأنس من نفسه هذا الاستعداد الفطري أن يسعى في تحمل العلم وكم وكم طرد أهل العلم المتوسمون طلبة ما جاؤوا لطلب العلم ولكن لطلب سمعة أو تشغيب أو تنقير أو تقفر للمسائل أو مشتبهات تشامها هذا العالم أو ذاك في فلتات لسان هذا الطالب أو في طريقة طرحه للأسئلة.
وكذلك القراءة البعض يقرأ ويزيد توحشاً فها هو من زعم بأن طريقة السلف أسلم وطريقته أعلم وأحكم وليت شعري كيف تكون الطريقة أسلم بلا علم وحكمة وكيف تكون الطريقة أعلم وأحكم بلا سلامة، فهذا قرأ وتعلم ورأى أنه أعلم من السلف !
ومن أيضاً من نصب نفسه للرد على المخالف من دون فقه نفس فقسى وتجاوز العدل وقطع طريق الرجعة على كثير من الذين رد عليهم بسوء خلقه وفساد طويته هو علم الحق ولكنه لم يرحم الخلق كل هؤلاء قرأوا ما ضرهم وقسى قلوبهم.
وفي الفقهيات هناك من يقفز لمطولات أو مذاهب مندثرة أو حتى يقرأ لإمام لديه نوع تميز كابن حزم يفيدك لغة وطرائق استنباط ولكن لديه أشياء نبه عليها أهل العلم، وأيضاً من أراد إنزال التعاطي الظاهري مع النصوص في بيئات حنبلية التعليم مؤصلة في الفتوى على إتباع الدليل على وفق أصول الفقه الحنبلي فسيأتي بالعجائب ويخالف المعمول به وإن أضاف إلى ذلك حدة بعض الظاهرية فيما يقررون واعتدادهم بما يرون فسيكون مرمى لجهات عدة وسيفتح باباً من الأغلوطات لم تأت الشريعة إلا لسدها هذا مثال، وأيضاً من توسع في تتبع كلام الفقهاء في المسائل الخلافية من الموسوعات والأقراص الالكترونية فسيضل ويضل إن كان حديث عهد بتأصيل فقهي فليست المسألة مسألة حفظ الزاد أو العمدة أو مختصر خليل أو غيره ومن ثم البحث في الخلاف فقد يعرض عليه في المطولات كلام للفقهاء أتوا به في معرض المناظرة أو تدريب من هو بين أيديهم من الطلبة وهو يفهم ما يرمون إليه ويقصدونه فالعالم قد يناظر ويقرر المذهب وهو في تعليمه أو في فتواه يخالف المذهب بدليل، بل في بعض المناظرات قد يقرر العالم مذهب من يخالف ليرد عليه من قوله، وبين السطور وما يتعلق بمصطلحات الفقهاء وطرائق تقرير المسائل أبواب كثيرة ينبغى التأني قبل الدخول فيها إضافة إلى المقدمات النفسية والمسلكية والآداب التي لا ينبغي بطالب علم أن يغفلها وهو يقلب النظر في مذاهب الناس وأقوالهم وطريقة التعاطي معها وموافقتها أو مخالفتها.
وفي الحديث أيضاً فكم وكم من أتى بعجائب الفتوى وخالف من هو أعلم وأكثر فقهاً لأنه رأى أنه اطلع على روايات وزيادات وحصل أسانيد لم يحصلها غيره فتمسك بحديث واحد رأى هو صحة هذا الحديث وقد يكون خالف أئمة هذا الشأن قبله أيضاً، ويخرج للناس في مواقيت الصلاة أو المفطرات أو رؤية الهلال بأقوال جديدة ليس له فيها سالف ومن بان له الدليل وعمل به في خاصة نفسه فهذا شأن فيه تفصيل والكلام على الظهور في المناسبات الشرعية كل عام بفتاوى غريبة.
هنري ميللر في كتابه الكتب في حياتي يقول (لقد خلصت بهدوء إلى نتيجة أن الكتب ليست من أجل الجميع وآخر شيء في العالم يمكن أن أنصح به هو أن أجعل كل شخص يتعلم القراءة ولو أن الأمر بيدي لحرصت على أن يتعلم الفتى النجارة أو البناء أو العناية بالبساتين أو صيد الطرائد أو صيد السمك).
القراءة لماذا وكيف ؟ يقول آدمز (ابحث عن شيء يثير اهتمامك أو يجعلك تقلب الصفحة بشغف كي ترفع رأسك حين انتهائك من القراءة لترى أن العالم قد تغير من حولك).
ويقول بيجوفيتش (هناك أناس يكدسون المعارف في عقولهم من دون أن تتسع رؤيتهم؛ فهذا الاتساع لا يتحقق إلا من خلال الأفكار.. بعض الناس يلتهمون الكتب من دون الوقفات الضرورية للتفكير، هذه الوقفات ضرورية من أجل هضم المقروء ومعالجته، من أجل استيعابه وإدراكه.. إن القراءة تقتضي إسهام القارئ فيما يقرأ، ويحتاج هذا إلى وقت، كالنحلة تُحول الرحيق في بطنها إلى عسل).
من الكتب التي تتحدث عن القراءة كتاب (كيف تتحدث عن كتاب لم تقرأه ؟ ) للمؤلف بييربايار العنوان عجيب ويفتتح الكتاب بمقولة لأوسكار وايلد يقول فيها (أنا لا أقرأ الكتب التي يطلب مني أن أكتب عنها، إن فعلت فلن أسلم من تأثيرها) وهذه المقولة أعجب، يقول المؤلف في المقدمة (بل إنه يستحسن أحياناً كما سأجلوه تباعاً فيما يلي من البحث إن أردت أن تصيب في حديثك عن كتاب أن لا تقرأه قراءة كاملة أو حتى لا تفتحه بالمرة) أين هذا مما نقوم به إذا أردنا كتابة قراءة لكتاب أو الحديث عنه في برنامج أو محاضرة إعداد وعمل جاد ؟
فصول الكتاب منها:
- الكتب التي لا نعرفها
- الكتب التي تصفحناها
- الكتب التي سمعنا بها
- الكتب التي نسيناها
فما الذي يعنيه بـ «اللاقراءة»، يذكر أن هذه الحالة حالة «اللاقراءة» هي حالة كل قارئ مهما كان مواظبا على القراءة لأنه مهم أكان مداوماً على القراءة فإنه لن يصل إلا إلى نسبة ضئيلة من الكتب الموجودة فبدأ الأمر يتضح، بعدها بصفحات أبان أكثر وأكثر حيث يذكر أن الثقافة الحقة يجب أن تنزع إلى الاستيعاب الكلي ولا يجوز لها أن تُختزل إلى مجرد مراكمة للمعارف التفصيلية وعليه لا بد من أن تكون نظرتنا للكتب شمولية بحيث نتجاوز فردية الكتاب لنهتم بالعلاقة التي تربطه بغيره من الكتب وهذه العلاقات ينبغي للقارئ الحق أن يسعى إلى الإحاطة بها. واختم بأن هذه خواطر متفرقة حول القراءة وشؤونها لكنها صالحة لأن تكون مدخل وفاتحة باب تدلل على أن هناك قوانين من الجيد الإحاطة بها قدر الطاقة قبل ممارسة هذا الفعل الحضاري العظيم ألا وهو القراءة.