د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
أعترف ابتداءً أنه ليس في ذهني فكرة معينة لتكون موضوعاً لهذا المقال، لكني تذكرتُ -حين فتحتُ صفحة (الوورد) هذه - عبارةً قديمةً كنت أرددها دائما، غرَّدتُ بها وأعدتُ تغريدها مرارا، وأكررها على كثير من الأصدقاء الذين يحسنون الظن بي، فيستشيرونني في طريقة تحقيق الإنجازات، وكيفية مواجهة العوائق والصعوبات، ودوافع الاستمرار في بلوغ الطموحات، كنتُ أقول لهم دائما: (لا تنتظر دافعاً لبدء الإنجاز، ولا تشجيعاً أثناءه، ولا تهنئةً بعد الفراغ منه).
لا زلتُ أؤمن أنَّ الشروع في بناء الإنجازات ينبغي أن يكون نابعاً من رغبةٍ أكيدةٍ داخلية وطموحٍ متوقد ذاتي، كما أنني متأكد دوماً أنَّ القرار الذي تتخذه لبداية الصعود نحو القمة يجب أن يكون بمبادرةٍ خالصةٍ من نفسك لنفسك، وألا تنتظر أيَّ نوعٍ من الأسباب والدوافع التي تجعلك تبدأ في العمل على تحقيق إنجازك الخاص وحلمك الكبير.
إنَّ أولئك الذين ينتظرون الفرصة المناسبة للبدء، أو ينتظرون أحداً يُرغِّبهم ويحثهم للانطلاق لا يزالون في أماكنهم، لم يحققوا شيئا ولن يفعلوا؛ لأنهم ربطوا انطلاقتهم بأسباب خارجية، وعقدوا الآمال على غيرهم في الصعود على أول درجة من سُلَّم الإنجاز، يظنون أنَّ هناك مَن يأبه بهم أكثر من أنفسهم في تحقيق الآمال والطموحات، ولعل هذه الطريقة تعجبهم؛ لأنها تسبب لهم راحةً نفسية، إذ لا يشعرون معها بندم، ولا تؤدي بهم إلى لوم أنفسهم؛ إذ يتوهمون أنَّ الوقت لم يحن بعدُ للعمل، ويظنون أنَّ الأقدار ستهيئ لهم البداية المناسبة، وأنَّ الظروف الزمانية والمكانية بل والحياتية ستخضع يوماً لظروفهم لتأذن لهم بقص الشريط، والشروع في إنجازهم الكبير الذي طالما حلموا ببلوغه وتمنوا تحقيقه.
إنَّ أول خطوة في بلوغ الأماني وتحقيق الإنجازات هي الإيمان العميق واليقين الأكيد بأنَّ لديك في داخلك الرغبة الجامحة للوصول إلى القمة، وثقتك بنفسك في قدرتك على تحطيم كل العثرات التي ستواجهك في أثناء صعودك، وأنَّ غيرك -مهما بلغ قربه منك وحبه لك وحرصه عليك- لن يفلح في تحفيزك وتشجيعك وإثارة رغبتك في الانطلاق ما لم تكن تلك الرغبة وذلك التشجيع قد بدأ منك وفيك قبل كل شيء، وأنَّ انتظار الأسباب التي تحثك على البدء بإنجازك لن ينفعك شيئا، بل سيؤدي إلى ضعفك وتأخرك، فالناس يتقدمون، والظروف تتغير، والحياة تستمر لا تنتظر أحدا.
أما التشجيع الذي يحتاجه المرء في أثناء سعيه نحو الإنجاز فلا ينكر أهميته أحد، غير أنَّ هذا لا يعني أن يربط المرء استمراره في عمله به، بل ينبغي عليه أن يطرح عن ذهنه انتظار أحد أو شيء يشجعه على تحقيق مبتغاه؛ لأنَّ انتظار التشجيع وترقُّب التحفيز وجعل ذلك سبباً في الاستمرار أو الإجادة والإتقان أو السرعة والتبكير، يتناقض مع كون رغبة الإنجاز نابعةً من نفسك ولذاتك.
إنَّ التشجيع على تحقيق الإنجازات أمرٌ جميل ومطلوب، والجميع يتمناه ويرغبه في أثناء توجههم نحو بلوغ الآمال وتحقيق الأحلام، غير أنَّ المهم هو ألا يكون أمرا مُنتظرا، مثله مثل الأسباب التي تدفعك للشروع في صعود أولى الدرجات، إن حصلتْ فجميل، وإن لم تحصل فينبغي أن يكون هذا هو الأصل، وأن يكون ذلك متوقعا، ولهذا يجب أن تلغي قبل كل شيء أيَّ نوعٍ من أنواع العلاقات بين الدوافع وأنواع التشجيع وبين رغبتك الأكيدة لبلوغ أمنياتك وتحقيق إنجازاتك؛ لأنَّ أسبابك موجودةٌ في داخلك، وتشجيعك لنفسك حاضرٌ دوماً وبقوة، فأيُّ شيءٍ تنتظره غير ذلك؟
إنَّ الملاحظ اليوم أنَّ كثيراً ممن ضعف عندهم الطموح، وقلَّت لديهم الهمة، وسار الزمن بهم دون أن يحققوا شيئا من أمانيهم، إنما أدى بهم إلى هذه الحال انتظارُهم التشجيع، وترقُّبهم التحفيز، فصاروا يتحججون بأنه لا شيء يدعوهم إلى المواصلة، ولا أحد يحثهم على الاستمرار، وكأنَّ هذه الإنجازات ستتحقق لغيرهم لا لأنفسهم، وأمثال هؤلاء من الصعب أن تجد لهم إنجازاً يُذكر، أو أمنية متحققة؛ لأنهم ربطوا نجاحهم بأمورٍ خارجيةٍ لا علاقة لها بطموحهم الداخلي ورغبتهم الذاتية.
أما التهاني والتبريكات التي تنهال عليك بعد أن تصل إلى القمة، فلا يشك أحدٌ في جمال تأثيرها، ولا ينكر امرؤٌ ما تحدثه من نشوة وطرب، بل إنَّ بعضها يفوق في القيمة كثيراً من الهدايا والمكافآت المادية التي ربما وصلتك من أحدهم فرحاً بك واحتفاء بإنجازك، ولكن، هل يجوز أن تضع هذه الأمور في قائمة الانتظار فتترقَّب وصولها وتتلهَّف إلى لقائها؟ وهل يصح أن تكون هذه التهاني هدفاً من أهدافك التي تسعى إلى الحصول عليها بجانب تحقيقك لإنجازك؟
إنَّ حصول التهنئة بعد الإنجاز أمرٌ محببٌ للنفوس، غير أنَّ عقد الصلات الوثيقة بينها وبين الرغبة في بلوغ الأهداف أمرٌ بالغ الخطورة؛ لأن الذين ينتظرون هذه التهاني ثم لا يجدون من يزفها إليهم بعد تحقيق إنجازاتهم تنكسر أجنحتهم، ويتحطم طموحهم، وتضعف هممهم، بل تتوقف إنجازاتهم؛ لأنَّ الهدف الذي كانوا ينتظرون حصوله لم يتحقق، وهو هدفٌ خارجيٌّ لا علاقة له برغبتهم الذاتية وطموحهم الداخلي، ولهذا ينبغي على المرء أن يلغي من حساباته انتظار كلِّ نوعٍ من أنواع المكافأة على إنجازه؛ لأنَّ أعظم مكافأة يتلقَّاها هي هذا الإنجاز العظيم الذي أسعد به نفسه، وأثبت من خلاله وجوده، وأرضى به ضميره.