د. محمد بن عبد الله المشوح
في يوم الثلاثاء التاسع من شهر ربيعٍ الثَّانِي من عام ألف وأربعمائة وسبعة وثلاثين للهجرة، كان لـ (الثلوثية) موعدٌ مع الأستاذ الدكتور أبو أوس إبراهيم الشمسان، وكان هذا اليوم قد تأخَّرَ لعدم الموافقة الأولى من الضيف الكبير اللغوي الشهير الباحث المعروف الأستاذ الجامعي الدكتور إبراهيم الشمسان.
عندما ظفرتُ بموعدٍ من أستاذنا الكبير أبي أوس، كان ذلك يومًا مشهودًا من ليالي الثلوثية الَّتِي لا تُنسى؛ ذلك لأن الدكتور إبراهيم من الَّذِينَ يتمنَّعون كثيرًا عن الاحتفاء والتكريم، فكم دُعي إلى مناسبةٍ يكون فيه الضيف والمُحتفَى به، ثُمَّ يعتذرُ ويتمنَّع بكل لطف ولباقة.
وهكذا فعلَ معي إلَّا أنني استطعتُ -بحمدِ الله وفضلِه- أنْ أُكثِرَ عليه من الإلحاح والإلزام، حتى وافقَ أخيرًا وسط حفاوةٍ بالغةٍ وترحيبٍ كبير من زملائه وأصدقائه وتلامذته الكُثر.
لا أنسى إذا تحدثنا عن ليلة الاحتفاء والتكريم الَّتِي حظيت بها الثلوثية للأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان، تلك العَبرات والدموع الَّتِي سكبها وهو يتحدث عن أحد أساتذته المعلم السوداني محمد محمد عبدالقادر، الَّذِي قدمَ إلى (المذنب) تلك المدينة الصغيرة آنذاك في منطقة القصيم، معلِّمًا للغة العربية.
وكان إبراهيم الشمسان (التلميذ) يتلقى مبادئ التعليم الأولى في مرحلته المتوسطة والثانوية على يدِ هذا الأستاذ الَّذِي حفَّزه ورغَّبه وحبَّب إليه لغته العربية الفصحى.
بعد أكثر من خمسة وأربعين عامًا لمْ ينسَ هذا الوفي الحفي الدكتور إبراهيم الشمسان معلمه الأَوَّل الَّذِي كان لديه المفتاح الأَوَّل لمحبة وعشقِ إبراهيم الشمسان للغة العربية، فبحث عنه، وأوصى، وتابعَ، ولاحقَ هذا الاسم في المملكة العربية السعودية وفي السودان، وأوصى الكثير من الأصدقاء والمحبين للبحث عن هذا الشخصِ.
وفي الأخير عثرَ عليه وعلى أسرته، ثُمَّ تُوفي أستاذه، ولمْ يقف عند هذا الحد الوفي الحفي إبراهيم الشمسان، إنما تواصلَ مع أسرته وتعهد لهم بإقامة مشروعٍ استثماريٍّ تجاري، يعود رَيْعُه على تلك الأسرة الَّتِي لا ينسى فضْلَ أستاذها وربانها عليه.
في الحقيقة أنَّ الحديثَ عن إبراهيم الشمسان حديثٌ متعددٌ ومُتشعِّبٌ، لكنَّ من أجمل تلك اللحظات الَّتِي سعدتْ بها الثلوثية في تكريم والاحتفاء بإبراهيم الشمسان هي وفاؤه لأساتذته وشيوخه.
وهذا ملمحٌ مهم كنتُ أحاول جاهدًا أنْ أكسرَ به رفْضَ العديد من الشخصيات العلمية والثقافية الَّذِينَ يأبون ويرفضون الاحتفاء والتكريم، وأقول لهم: إنني لا أريدُ أنْ تتحدث عن شخصك وذاتك، لكنها قد تكون فرصةً للحديث عن أساتذتك وشيوخك، ومَن لهم تأثيرٌ في حياتكَ العلمية والعملية والثقافية ومن لهم حق عليك.
والبعضُ منهم -وللهِ الحمدُ- يجدُ أنَّ ذلك تنبيهًا مهمًّا وفرصةً سانحةً؛ لردِّ بعضٍ من الجميل لأساتذةٍ وشيوخٍ كان لهم فضلٌ ومقام وحظوة في مسيرة الضيف المتحدث.
والدكتور إبراهيم الشمسان هو أحد أولئك القلائل من الأوفياء الَّذِينَ لم يمرَّ عليه اسمٌ من أسماء أساتذته وشيوخه إلَّا وتوقَّف عنده ذاكرًا وشاكرًا ومُثْنِيًا ومُبَجِّلًا ومُعظِّمًا لهم، يُقدِّرهم حقَّ قدرهم، ويُقِيم لهم وزنهم اللائق بهم، بدءًا من أستاذه ذلك المعلم السوداني مُعلِّم اللغة العربية في المذنب، وانتهاءً بأساتذته في الجامعة، مرورًا بالدكتور أحمد الضبيب، والدكتور محمد لطفي الصبَّاغ «رحمه الله» الَّذِي خصَّه بمقالةٍ خاصة.
وهو لا يتردد مطلقًا في الكتابة عن أي راحلٍ من زملائه وأصدقائه وأساتذته، يذكر مآثرهم، ويُشنِّفُ الأسماعَ بأخبارهم الجميلة؛ وذلك من الوفاء الَّذِي اشتهرَ به الدكتور إبراهيم الشمسان «حفظه الله».
في الحقيقة أنني أجدُ أنها فرصة في هذا الملف الثقافي المُميَّز الَّذِي تنهض به الثقافية في جريدة الجزيرة، وهي الَّتِي عوَّدتنا دائمًا على الاحتفاء والتكريم بالعديد من الشخصيات الثقافية الَّتِي تستحق ذلك.
والدكتور إبراهيم التركي حفيٌّ وفيٌّ كذلك بالعديد من الشخصيات الَّتِي كان لها دورٌ في مشهدنا العلمي والثقافي.
وأجدُ أنها فرصةٌ كذلك للحديث عن أستاذنا الكبير الدكتور إبراهيم الشمسان الَّذِي من المصارحة في الحديث عنه أنَّ البعض لا يعرف عن شخصية إبراهيم الشمسان، سوى ذلك الشخص العالِم الجليل المهيب الَّذِي غاص حتى أذنيه في العِلم والعربية وعلومها ومصارفها وكتبها وكنوزها، جادٌّ في حديثه، مُغرَمٌ بالعلم في كل حياته، ليس له همٌّ ولا شأنٌ إلَّا الدفاع عن عربيته الأصيلة، ورد الشُّبَهِ الَّتِي تُثار حول لغتنا العربية الفصحى.
ل كنَّ الدكتور إبراهيم الشمسان له وجهٌ جميل آخر، لا يُدْرِكه إلَّا مَنِ اقتربَ منه، إنَّه ذلكم الشخص الرقيق الَّذِي مُلِأَ خُلقًا وفضلًا ونبلًا، يأسركَ بابتسامته ولطفه وعطفه بكل ما تحمله هذه الكلمات من معنى.
وهو حَييٌّ كذلك رغم مكانه، وحينما يتحدث إليكَ حتى وإنْ كنتَ أحد تلامذته فتجدُ الإصغاء التام، وتجد نظرات عينية الَّتِي يملأهما الحياءُ والرفق واللين والخُلق الرفيع.
وإنْ نسيتُ في هذا المقام فلا أنسى موقفه الشخصي النبيل حيثُ قدَّم كتابه الضخم العظيم، هذا الكِتاب النفيس، وهو (معجم أسماء الناس).
هذا المعجم المميز الَّذِي أفنى فيه عمره ووقته من أجل إخراج هذه الفوائد الرائعة الجميلة حتى خرج بهذا الثوب الجميل القشيب، يُنبيكَ عن هذه السَّعة العلمية اللغوية في تتبع أسماء الناس، وردها لأصولها ومصطلحاتها ومكنونها وفصيحها وعاميها، ومعاني تلك الأسماء ودلالاتها.
وليس الحديث عن الكِتاب وما يتضمنه من معلومات فائقة، وتفاصيل علمية دقيقة، لكنني أتوقفُ عند نقطةٍ هامة تنبيكَ عن هذا القلبِ الكبير النبيل، وهو إهداؤه للكتاب لشيخنا العَلَّامة محمد بن ناصر العبودي، وتفاجأ شيخنا الشيخ محمد بن ناصر العبودي بأنَّ هذا الكِتاب قد أُهدي إلي، بل إنَّ هذا العمل برمته أهداه المُؤلِّف في أولى صفحات الكِتاب إلى الشيخ محمد العبودي.
وذلك بلا شك ينبئ عما يحمله الدكتور إبراهيم الشمسان من نبلٍ نادرٍ، قلَّ نظيره.
فكان موقفًا وفائياً مهمًا من الأستاذ الدكتور إبراهيم الشمسان مع شيخنا العَلَّامة محمد بن ناصر العبودي، في إهدائه لهذا الكتابِ.
والحديثُ كذلك عن الدكتور إبراهيم الشمسان حديثٌ يطول؛ لأنك تتحدثُ عن شخصيةٍ علميةٍ مميزة، كان له أدوارٌ عديدة في كلية الآداب بجامعة الملك سعود، وتتلمذ على يديه العديد من الشخصيات الَّتِي كان لها أثرٌ بارز في الحياة العلمية والعملية في المملكة العربية السعودية.
وكذلك إنَّ البعض قد لا يدرك أنَّ العديد من الشخصيات الَّتِي مرَّت على الدكتور إبراهيم الشمسان، دائمًا تذكَّرَ فضله، ونبله، وتواصله مع الناس.
وفي الختام، فإنني أجد نفسي شاكرًا ومثنيًا على الدكتور إبراهيم الشمسان على هذه الأعمال العلمية النبيلة الَّتِي دائمًا يتحفنا بها، ولا أدلَّ على ذلك من احتفاء مجمع اللغة العربية على الشبكة العنكبوتية، بنشرِ معجمه المميز؛ معم أسماء الناس الَّذِي نشره.
وكنتُ قد قرأتُ على شيخنا ذلك الإهداء الجميل الَّذِي قدَّمه الدكتور إبراهيم الشمسان، حيث قال في إهدائه إلى معالي الشيخ محمد بن ناصر العبودي: «إلى علَّامتنا الشيخ الجليل محمد بن ناصر العبودي أمير الرَّحَّالين في البلاد والتراث، ومحرر المعجمات الطوال ليكونَ هذا المعجم المتواضع في ساقة أعمالكم الجليلة متصلًا بها بسببٍ».
فأيُّ كلماتٍ أجملُ من هذا الإهداء الرقيق اللطيف الوفي من قبل الدكتور إبراهيم الشمسان.
ختامًا، أتوجَّه بالشكر الجزيل إلى ثقافية الجزيرة على هذا العمل الجليل الَّذِي يستحقه أستاذنا الكبير الدكتور إبراهيم الشمسان، متمنيًا لأبي أوس تمام وكمال الصحة والعافية، وأنْ يُمدَّه بعونه وتوفيقه لِيُكمِلَ مشاريعه وأعماله العلمية الرصينة الَّتِي ينتظرها زملاؤه وتلامذته ومحبوه وأصدقاؤه،
***
- قريبًا ملف خاص عن أ.د. أبي أوس الشمسان
***
- تكريم الدكتور إبراهيم الشمسان في ثلوثية محمد المشوح
***
- الشمسان متحدثًا في ثلوثية المشوح
***
- الشمسان في صورة تذكارية خلال التكريم