قاسم حول
على مدى أسبوع حبست نفسي حبسا اختياريا وجميلا لمشاهدة عدد غير قليل من الأفلام القصيرة التي أنتجتها بلدان أمريكا اللاتينية. هذه الأفلام التي هي قصيرة في زمنها، في اختصارها للزمن وإتساع وقت مضامينها، بل تشكل ملاحم سينمائية ثقافية تهز وجدان المشاهد شكلا ومضمونا! هي أطول من أفلام طويلة.
كل أفلام شارلي شابلن وبستر كيتون في بداية تاريخ السينما هي أفلام قصيرة ولم يتوجه شابلن نحو الفيلم الروائي سوى في فترات متأخرة من تاريخ عمره السينمائي.
لم تكن ظاهرة الفيلم القصير جديدة في عالم السينما، فلقد قدمت السينما العالمية في تاريخها عددا هائلا من الأفلام القصيرة، بل وذهبت شركات الإنتاج إلى أبعد من إنتاج الفيلم القصير الذي يندرج في مستويات الأفلام المتنافسة على الجوائز في المهرجانات السينمائية، بل أن شركات الإنتاج وشركات التوزيع صارت تنتج الأفلام القصيرة وتربطها مع بعضها ضمن انتقالات فنية لتصبح فيلما طويلا بقصص قصيرة، وقد حصل هذا مع قصص الكاتب الأمريكي «أو هنري»، حيث أنتجت خمس قصص من قصصه القصيرة بأفلام دمجت مع بعضها لتشكل عرضا تجاريا كاملا في صالات السينما تحت عنوان (O Henry and full house ) ، أنتجتها شركة فوكس للقرن العشرين وهي شركة إنتاج أمريكية عملاقة في هوليوود، وقد وزعت القصص على عدد من المخرجين ليتولى كل مخرج إخراج إحدى قصص الكاتب الأمريكي «أو هنري» والمخرجون هم «هاورد هاوكس، وهنري هاثوي، وجين نيجولسكو، وهنري كوستر، وهنري كينج»، كما حصل ذلك أيضا مع قصص الكاتب الأمريكي «أدجار ألن بو» ثم عمدت فرنسا على إنتاج ثلاث قصص لثلاثة مخرجين من مخرجي أفلام الموجة الجديدة ودمجت في فيلم واحد في نهاية الستينات من القرن العشرين. وقد حقق هذا النمط من الإنتاج نجاحا كبيرا لشباك التذاكر. ثلاثة أو أربعة أفلام تغطي مساحة ساعتين، وقد نجحت هذه التجربة على مستوى العروض التجارية إضافة إلى قيمتها الفنية.
تذكرت هذه الأفلام وأنا أشاهد موجة جديدة من الأفلام التي لا يتجاوز زمنها النصف ساعة وكلها من أمريكا اللاتينية، من الأرجنتين والبرازيل، وهذه الأفلام جاءت مدهشة في تناولها لأخطر الموضوعات المعاصرة وبصيغة فنية، وقد حصدت هذه الأفلام القصيرة أكبر جوائز المهرجانات وجوائز أكاديمية السينما «الأوسكار».. أفلام قصيرة تحدثت عن الإنسان في هذا الزمن الملتبس.. إنسان الغابة المتوحشة في خضم مشاكل العصر وضياع الإنسان في خضم هذه المشاكل.. كل الثيمات تنصب في هذه الثيمة. عندما نشاهد هذه الأفلام ونتأملها مليا سوف نكتشف بأن ميزانيات هذه الأفلام ليست سهلة ولا تندرج ضمن الأفلام ذات الميزانيات المخفضة كونها ميزانيات لأفلام قصيرة، بل هي أفلام قصيرة بميزانيات ضخمة وكبيرة فيما مدتها الزمنية لا تتجاوز النصف ساعة. وكلها أفلام مهمة ومتقنة وذات موضوعات عصرية، ولعل أهم هذه الأفلام هي الطريق الطبيعي، حكايات برية، الانفجار العظيم.
هذه الأفلام تترك المشاهد أمام جملة من الحقائق المعاصرة التي تتناول إنسان هذا العصر، ولكن ما هو مثير في هذه الأفلام صيغتها الفنية والتقنية. وكل العاملين في هذه الأفلام هم من الفنيين والتقنيين المحترفين وكل الممثلين عباقرة في الأداء.. ممثلون محترفون وكل شيء حرفي في الفيلم، وهذا ما حقق الصنعة الحرفية.
ينبغي أن نعيد للفيلم القصير ألقه التاريخي أمام الفيلم الروائي الطويل، مثل ما نعيد للقصة القصيرة ألقها إزاء الرواية الطويلة. أن يعاد بناء الصالات ذات المائة كرسي لنجذب مشاهدي النخبة لمشاهدة أفلام قصيرة. وهنا في هولندا صالات عرض في مجمعات سينمائية تتنوع أحجامها بين صالات النخبة من المشاهدين وبين صالات الجمهور العام.. وتعرض هذه الصالات هذا النمط من الأفلام بين الحين والآخر.
المهرجانات السينمائية باتت مهتمة بالفيلم القصير.. وأفلام أمريكا اللاتينية القصيرة هي أفضل الأفلام القصيرة أسلوبا ومضمونا.
سينمائي وكاتب عراقي مقيم في هولندا