اعتاده الحزن وطناً، واعتاده ملاذه، تعتريه نوباته وأوجاعه، ومع الأيام صار يصبر ويتصابر، يكبر ويكابر، يزهد ويُزهد فيه وفى حكيه وحكاياته مضت سنون على آخر لحظة طرق فيها طارق قلبه، فقلبه اليوم فارغ من كل شيء سوى ذكريات أليمة يتعاهدها بكاء وألما، يعتقها صبراً واحتساباً، لا تلبث أن تصبح حزنه الذي يقوده ويقتاته ذات صباح جميل، قرر أن يسبق النور وإشراقه، كعادته اسبغ ذكرياته الجميلة على روحه، علها تطهره وتنفيه من لهيب أوجاعه، رصد الشمس وهي تستعد لرحلة نور جديدة، تبعث الحياة فى الأرض بعد سكون أرخى عليها الليل ظلامه.
حاول أن يستدعي الجميل من ذكرياته، لكنها قليلة بمقاييس الفعل الذي جعلها مجرد نتوء فى ذاكرة كبيرة ظللها الحزن فارخى عليها سدوله وسواده.
ومع ذلك دلفت ذكرى قديمة، عرضت نفسها فى سوق ذكرياته، كانت وضاءة جميلة، تحاول أن تختزل المشهد فى ذاتها، عاشها من جديد وعاش تفاصيلها.
تذكر لحظاتها، كيف كانت؟ وكيف آلت؟، أيعقل أن يصبح ذلك المشهد وشهوده مجرد أثر بعد عين!
فى ركن قصي من ذكرياته، فتش أيضاً عن لحظة كانت فارقة غارقة فى شجونه وأشجانه، أعاد تحميلها على شريط حياته، وأخذ يستعيدها بإحساسه، غناها بلحنه وقيثاره، بصحبة ألحاظ كانت وستظل داءه ودواه.
انتهى من ذلك الشريط، ولم يعد بوسعه أن يجد شيئاً آخر يفرحه وينسيه أوجاعه، وهمومه التي توالت عليه كمدى تقطع أوصاله.
عاد إلى واقعه يتجرع حزنه المعتق بآلام ذكرياته، عاد إلى مآلاته وهو يعلم أنها نهاياته، عاد إليه حزنه البعيد وهو يراه رفيق حله وترحاله، رفيق أنسه وأمسه، وغده وباقي البقية من باقي دهره وأيامه.
- علي المطوع