فليعذرني محمود درويش وإن كان تحت التراب يرحمه الله فذاكرتنا تحتاج في أحايين كثيرة إلى أن ننسى ما يجب أن ننساه !
نكبر ونكابر كثيراً حتى نجتاز السقف فلا نقطف عنباً ولا نجني رطباً وما زلنا نرى الأنوف الشم خطاً أحمراً لا يجب أن يتخطاه أحد وإن كان ! ، وتُمد إلينا أيدي نوازع وتظل تُمد وإن كانت قليلة إلا أننا لا نستطيع أن ننازعهم بأيدينا ! أتعرف لماذا ؟! لأن ذاكرتنا لم تتعود أن تنسى ذاك الأنف الأشم ! وقد طوّق الرقاب بجميل كبرياءه وبغروره الذي ظل يضرب به الأرض ليخرقها حتى كادت تتحطم رجلاه ولم يرسم خطاً واحداً من الأرض، بينما ظل أنفه الأشم يصعد كثيراً ليبلغ الجبال طولاً ! وما هو ببالغه ولو ظلت ذاكرته تعيد إليه سجلّه الضخم من البطولات ليستعرض بها أمام مشاهديه حتى يذكرهم بتباهي معهود ما كان منه بالأمس وما هو فاعله غداً ! ولكن إلى أين ؟!
لا أدري ! ومن قال لا أعلم فقد أفتى ! سمعناها وعقلنا أن الذي لا يدري يعرف أين يضع رأسه ورجليه ! ولكنه الصراع مع النفس وهو أشد الصراعات كما يصفها برتراند راسل حين جعل صراع الإنسان مع الطبيعة والإنسان ضد الآخر فإن الخلاصة تنتهي بصراع الإنسان مع نفسه وأعتقد نتيجة ذلك هو عدم نسيان مافي الذاكرة !
- ربما نبكي يوماً نتمنى أن أوقات الصحوة تعود بأصحابها فعلى الأقل في تلك الأيام كانت براكين الإيديولوجيا الطائفية والعرقية والقبلية والمناطقية تغط في نوم عميق لم يبعثها أحدهم من مرقدها، فتلك قد حصدت في وقتنا من الأرواح ما الله عالم حين تخطئ إحصائيات الأمم المتحدة ! من كان يظن أن نصل إلى زمن يكون التشظي الفئوي يحتوي منزلاً واحداً وكأنه قد ضاق ذرعاً بفضاء الله الواسع حتى أصبحت الحكمة التقليديّة أن الاختلاف لا يفسد للود قضية من متاع الأمس الغابر ! إنها أوجاع الذاكرة التي تتلقف الصدمات بين فينة وأخرى فتضخ الصداع كمؤشر مبطن لتحفيز النفس على الانتقام الموجع !
- بالأمس نعرف أن الذي يصاب بداء الضغط والسكر والقلب هم حملة السمنة والغضب السريع وعدم الحركة وربما يكون الإرث له نصيب من ذلك أيضاً وأما الآن فسبحان مغير الأحوال فكل ذلك يحمله ضعيف البنية والهادئ ومن يمارس الرياضة فلا تتعجب كل العجب حين تسمع عن فلان بكل الأوصاف المخالفة بإصابته بتلك الأدواء لأن هناك من لا يرحم يسكن في عقل هذا المريض ! إنها الذاكرة التي لا يريد أن ينساها فتلذعه بذكريات مؤلمة تتركه صيداً سهلاً لكل داء جديد !
- أصبحنا في عصر النصيحة ! فالحِكَم والأمثال والنصائح تتقاطر في سماء السوشال ميديا والكل أصبح حكيماً ومثالياً ومثقفاً - حسب تعريفات الثقافة ! - وهذه سجية مختزلتها ذاكرة نائمة وأيقظتها التكنولوجيا الحديثة لذلك كَثر المؤلفون وازدحمت أرفف المكتبات بالكتب الغثة والسمينة ولو أن الغثاثة تغلب أحياناً ! فأصبحوا من الثقافة والعلم كما قال الشاعر عن ليلى :
وكلّ يدّعي وصلاً بليلى
وليلى لا تقرّ لهم وصالا
ولو علمت بما يحكيه عنها
لشقّت صدرها وأتت وبالا
فهل تستطيع ذاكرتنا أن تنسى بعض الأوجاع الممضة والتي استفحلت كثيراً مع تقادم الزمن حتى أصبحت من نواقع العقل والقلب ؟! .
- زياد السبيت