حوار - السكرتارية العلمية - أ. ردة بن علوان بن عطوان الحارثي - أ. علي بن جعيد بن هادي السلامي:
استضاف القسم العلمي في المجلس العلمي المحدث اللغوي صالح بن سعد اللحيدان في مدينة الرياض، وقد استجاب شريطة أن يكون هذا اللقاء مختصراً، والمعروف أن اللحيدان معني بقواعد اللغة ومسائل الجرح والتعديل.. وقد استفدنا من كثير من أطروحاته الموجودة على اليوتيوب في مسائل النقد العلمي والنقد الثقافي. وبدأنا بأسئلة، لعلها تكون جديدة، وليست مكررة.. ولم نكن لنجبره على التفصيل لكن في أسلوبه ما يغني عن الإطالة، خاصة لمن قرأ كتابه (نقد آراء ومرويات العلماء والمؤرخين)، وما جرى من آراء جريئة مع الشيخ عبدالوهاب أبو سليمان وطه حسين وعباس محمود العقاد في مقالات متنوعة. ولقد كان السؤال الأول:
كيف ترى الوضع العلمي بصفة خاصة؟
- هذا سؤال يحتاج إلى أجزاء عدة؛ لأنه سؤال عام؛ يحتاج إلى ذوي الاختصاص الدقيق، كل في مجاله، ولكن محصلة القول فيما يمكن قوله إن الوضع العلمي ينقسم إلى أقسام عدة:
القسم الأول: العلمي الخاص، وهم أولئك العلماء الذين تفرغوا بذواتهم للتحقيق والدرس والتمحيص.
والقسم الثاني: ما تخرجه الجامعات ومراكز البحث العلمي من رسائل علمية متعددة.
والقسم الثالث: الهيئات العلمية المتخصصة في فقه النوازل وما يتبعها.
والقسم الرابع: ما يطرحه بعض العلماء والكتَّاب في مقالات متنوعة في الصحافة.
فالمستوى العلمي على هذا الأساس - وحسب متابعتي - إنما هو مستوى أرجو أن يرقى صعداً إلى التجديد النوعي؛ لأن بعض ما رأيت وبعض ما عُرض علي وما أتابعه إنما هو تكرار وتهميشات، ويغلب على البحوث العلمية والدراسات العلمية كثرة النقولات والاستطرادات.
والمحصلة أخيراً هذا شيءٌ جيد، لكنه بعيد عن النزوع إلى التجديد الذي تحتاج إليه الأمة؛ لكي يكون العقل الذي هو مناط التكليف قد تم استدعاؤه؛ لكي يقوم بدوره بدلاً من القلب، وبدلاً من العاطفة؛ وذلك حتى تذهب العجلة، وتذهب العاطفة بعيداً عن الأطروحات.
وحاول أن تقرأ ثلاثة بحوث في الفقه مثلاً، أو في النقد العلمي، أو في استخراج الآثار فتجدها غالبًا متشابهة.
إذًا التجديد يا شيخ صالح مفقود.. كيف يكون هذا؟
- التجديد - حسبما أطرحه من خلال المحاضرات والدروس العلمية والثقافية - هو قفزات نوعية، لم يسبق أن حصلت من قبل على هذا الأساس؛ فالتجديد شبه مفقود، ولا يحسن أن نخلط بين التجديد والجرأة، أو بين التجديد والانتصار للرأي الآحادي، أو محاولة فرض الرأي بذكاء واحتراف.
التجديد مسألة نوعية، لا تحدث غالباً إلا من الموهوب.. والخلط مشكلة؛ إذ إن هناك خلطاً بين الذكي والنابغة والموهوب.. ومن المعلوم من تراجم الرجال الذين لهم بصمة في التاريخ أن الموهوب قليل الحضور قليل الكتابة.. فلو أخذنا مثلاً البخاري أو مسلم أو ابن قتيبة أو ابن خلدون، أو أخذنا ابن ماجة، أو أخذنا أبا داوود، أو أخذنا العز بن عبدالسلام، أو أخذنا من المعاصرين بخيت المطيعي أو أحمد شاكر أو شعيب الأرنؤوط.. لوجدنا أن كتبهم قليلة، لكن ذكرهم بقي سارياً.
واسأل من شئت أي عالم أو مثقف أو باحث عن يحيى بن سعيد القطان أو مسدد بن مسرهد أو شعبة بن الحجاج أو ابن تغري بردي أو السرخسي.. فإنهم قد يجيبون لكنهم - أعني بعضهم - قد لا يجيبون كيف وصلوا إلى هذه الدرجة من تغيير مجرى التاريخ.
وهذه نقطة تحتاج إلى فهم حقيقة عقلية هؤلاء، وتربية هؤلاء إبان الطفولة المبكرة.
كيف يكون هذا وهؤلاء غالباً يعرفهم البعض؟
- نعم، هذا فيما يبدو لي هو محط الخطأ. أنا لا أقصد كتبهم أو آراءهم، إنما أقصد عقليتهم لنصل إلى الموهبة الحقيقية التي أوصلتهم إلى هذه الدرجة من العلوم على تجرم القرون الطوال.. وهذا أمر يغيب عن البال. نعم نحن نعجب بهم، ونقرأ لهم، وننقل عنهم.. لكننا
نعمى عن كيفية موهبة هؤلاء على غرار محطٍ عالٍ مديم.
إذاً يا شيخ صالح رسائل الدكتوراه والماجستير التي زخرت بها البلاد العربية والبلاد الإسلامية ألم تأتِ بجديد؟
- بلى جاءت بجديد من حيث إحياء التراث العلمي، ومن حيث بيان جهود السابقين، ومن حيث تراجمهم، ومن حيث آرائهم.. لكنها لم تضف جديداً لم يسبق إليه.. ناقشت بعض الرسائل، واطلعت على بعض البحوث، وشاركت في بعض المؤتمرات والندوات.. هناك جرأة وذكاء وإخلاص للوصول إلى الحقيقة، لكن التجديد الإضافي غير المسبوق لم أقف عليه.
إذا هذه مشكلة؟
- كلا، ليست مشكلة؛ لأنها في أساسها يبذل أصحابها جهد مقل. المشكلة هنا هي إلقاء اللوم على الدول. المشكلة أن اللوم يقع على المسؤولين، وعلى دور النشر تلك التي تجيز الرسائل على أساس الكيفية الفعلية الجيدة وضخامة الطرح، لكنها تلام كثيرًا؛ إذ لا إضافات غير مسبوقة. اذكر لي رسالة أو بحث جاء بجديد، لم يسبق إليه أبداً. ودعك من فقه النوازل والمستجدات؛ فهذه في حال شبه جيدة.
النقد الثقافي كتب فيه كثير من الأدباء والمثقفين.. هل ما فعلوه يرقى إلى درجة الإقناع؟
- انظر إليّ جيداً.. غالب الناس اليوم لا يقرأ إلا القليل، ولا يقرأ إلا الخفيف.. وهناك خلط كبير بين الإنشاء الطردي والخطاب المباشر وطرح الآراء العجولة.. لكن دون تأصيل أو تقعيد. المشهد الثقافي اليوم يعج بالاختلافات بين مثقف ومثقف، وأديب وأديب، وشاعر وشاعر.. ويحسبون أن هذا هو الأصل وليس كذلك.
إذًا هناك لا بد من الإجابة أن الوضع في البلاد العربية لا يرقى إلى الدرجة المقبولة التي وصل إليها مثلاً ابن قتيبة في (أدب الكاتب) أو (عيون الأخبار)، أو ما كتبه الترمذي في (العلل الكبرى والصغرى)، أو ما ذكره الذهبي في (سير أعلام النبلاء)، أو الرافعي في (وحي القلم) أو عبد العزيز البدري أو بخيت المطيعي.. كل ما هناك تكرار، و»لت وعجن» لكن هذا قد يؤول أخيرًا إلى شيء جيد؛ لأنه يولد مع الاستمرار شحذ الموهبة ولو عن طريق الاكتساب.
ما كتبه مالك بن نبي ومحمد أركون ما تقول في ذلك؟
- المقارنة هنا ليست واردة؛ كلاهما عاش في فرنسا، وتُوفيا - رحمهما الله - لكن مالك بن نبي يميل إلى الموهبة والتجديد الجزئي في أطروحاته، وأركون يأخذ كثيرًا من غيره كطه حسين حينما كتب الشعر الجاهلي والوعد الحق وعلى هامش السيرة.
المشكلة هنا عندنا في العالم العربي أن الإعجاب قد يعمي ويصم.. فانظر إلى الإنتاج بعين واحدة ثم احكم أن فلاناً ناقدٌ أو مثقف جليل أو عالم جليل.. مشكلة الألقاب تعطي تقديم العاطفة على العقل بحيل شتى، تعمي المتابع عن حقيقة الفرق بين هذا وذاك.
النقد العلمي على هذا الأساس والنقد الثقافي ليسا موجودَيْن؟
- ليس هناك نقد بالمعنى الصحيح، لا العلمي ولا الثقافي. هناك أطروحات كثيرة، بثها بعض العلماء، وبثها بعض المثقفين في كتب ورسائل ومقالات.. هذه كثير منها آراء ومناقشات، وأخذ ورد، وبذل الملاحظات التي أحيانًا يطرح فيها العالم أو المثقف السرد الإنشائي والاستطراد؛ لكي ينتصر لرأيه ولو عن طريق التعريض.
النقد مسألة عقلية بحتة، تقوم على العمق كما تقوم على الإحاطة وقوة الملاحظة وقوة الإدراك والنزاهة وبذل الرأي الذي لم يسبق إليه حتى إذا قرأه العالم أو قرأه مثقف يجد أن هذا النقد هو الصحيح حتى ولو لم يقتنع به. من هذه الحيثية قد يحدث السطو من عالم
أو مثقف أو أديب أو شاعر؛ لأن سقفه قد توقف عن حقيقة التجديد؛ وإلى هذا هو يفقد آلية النقد كنقد.
إذًا هذه مشكلة؟
- هي مشكلة حسب فهمي ومتابعاتي ومشاركاتي، لكن هذه المشكلة قد تزول لو وُجد (الجرح والتعديل) على أساس العدل دون مواربة أو مجاملة أو تبادل المصالح بين مثقف ومثقف وعالم وعالم وشاعر وشاعر.
والجرح والتعديل هو النقد عينه بعلمه، والنقد على هذا الأساس هو الذي يقوّم العمل، ويبيّن الخلل فيه.. وهذا موهبة. ولا يجوز هنا أبدًا في أخلاقيات العلم أن نخلط بين الجرح والتعديل وبين الغيبة والنميمة والتسطيح والذم من باب العداوة أو الانتصار لأيديولوجية معينة.
ابن باز وابن حميد وقبلهما ابن إبراهيم ألم يقوموا بالنقد؟
- الذين ذكرتهم أئمة كبار في مجالهم، ولهم أيدٍ جليلة في البيان والإيضاح والإجابات، لو جُمعت كلها في كتاب فقد يستفيد الناس من ذلك كثيراً.
لكن من خلال دراساتكم القضائية وتحليلكم للمسار العلمي من خلال فهم النفسيات عن طريق الجلسات التي تقومون بها كيف نعرف الموهوب؟
- الموهبة لا يمكن أن تؤخذ عن طريق الطبيب أو الحقن أو تؤخذ عن طريق كثرة القراءة وجمع آلاف الكتب أو الحضور الإعلامي.. الموهبة ذات صفات عميقة جداً، وما وضعته بعض المراكز والدورات التجريبية لاكتشاف الموهوب يحتاج إلى إعادة نظر؛ لأن النتائج - حسب فهمي - قد تخيب الآمال؛ فمن يأخذ ممتازًا في كل شيء يعتبر موهوباً. الموهبة ليست كذلك الموهبة؛ هي إضافة شيء جديد على مسألة جديدة، أما الإجابات الجيدة والإجابات الممتازة والإجابات عالية القدر فهذا قد يكون نابغة أو ذكيًّا 100 %، ولا يمكن أن يكون موهوباً. الموهبة حالة نفسية غامضة جداً.. الموهوب شديد الحياء، قد لا يفهمه أحد.. الموهوب يبتعد عن الظهور، وينزع إلى الحساسية المفرطة، وإذا طرح شيئاً قعّده وأصَّله، ولا يعرفه إلا المحيطون به عن قرب.. وقد يكون هذا الموهوب ليس جيداً في الدراسة المنهجية، وقد يرسب ثلاث سنوات في صف واحد، بينما الموهبة كامنة فيه، لكنها لم يكتشفها موهوب يوازي موهبته.
الموهبة قدرات عالية فذة من السؤدد؛ ولذلك لا يمكن للموهوب أن يحسد قريبه أو يذمه أو زميله أو يؤذي جاره.. الموهوب ذو نزعة جبليّة، يميل فيها إلى قوة العدل وشدة الحساسية نحو الظلم والحيف؛ فهو لا يريد هذين؛ ولهذا قد يُحسد بل قد تتم الوشاية به. وينزع الموهوب أحياناً إلى الصراحة التي قد تجره إلى الخطأ عليه.
ما تقول في هؤلاء: الشيخ العنقري وعبدالله أبا بطين وعمر ابن سليم؟
- كما قلت عن الإمام ابن إبراهيم وابن باز وابن حميد.
ما تقول كذلك في هؤلاء: محمود شاكر والعقاد ومحب الدين الخطيب؟
- محمود شاكر ومحب الدين الخطيب يلتقيان في تأصيل المسائل العلمية وتحقيق المناط فيها. أما العقاد فهو باحث وأديب، ويميل إلى الترجمة التحليلية النفسية. وقد استفدت منه إبان اليفاع؛ فهو على هذا يختلف عن شاكر والخطيب.
وهذان ما ترى فيهما: سلام البحيري وعدنان إبراهيم؟
- هذان كما كنت أتمنى من الذي يجري اللقاء مع أحدهما أن يكون على سبيل المناظرة. هذان الرجلان جيدان من حيث الجرأة والاستحضار النصي وذكر بعض المراجع المطولات وكتب الفروع.. لكنهما يقعان في الخطأ كثيرًا حينما يريدان الآثار النبوية أو أقوال الصحابة أو أقوال التابعين؛ فتجد لديهما الأحاديث الموضوعة والأحاديث الضعيفة والأحاديث التي لا أصل لها.. وكنت أتمنى من عدنان لو يهدأ قليلاً، ويقرأ كثيرًا، خاصة الأسانيد من الكتب المعتبرة. وكم كنت أتمنى من سلام البحيري لو يبتعد عن كتاب إخوان الصفاء فيبذل آراءه المتفقة مع الفهم الصحيح؛ لأنه - هداه الله - يطرح الرأي ثم يلوي النص ليوافق رأيه.
ما تقول في عبد العزيز آل الشيخ؟
- تقصد الشيخ عبدالعزيز بن عبدالله آل الشيخ؟ هذا رجل جمع بين الفقه وأصول الفقه، وجمع بين الجد وفهم الآثار.. وقد تكون شهادتي فيه مجروحة؛ لأنني تلقيت العلم عليه في المرحلة المتوسطة عام 88 للهجرة؛ فهو في مكانه الذي هو فيه الآن سد مسداً مباركاً، خاصة وهو حسن القيادة وحسن التدبير.
ما تقول في عبدالوهاب أبو سليمان؟
- هذا الرجل باحث متمكن، ولديه شبه إطالة نفس في أطروحاته، وأنا أقدر هذا الرجل كثيرًا لسمته وحسن تدبره، لكنه حينما يأتي للآثار يجتهد فيقع في الخطأ.. وكنت قد ناقشته في موضع ولادة النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو يقول إنه في موضع المكتبة الآن، وقد بينت خطأ هذا من خلال البحث وتأصيل هذه المسألة، فلعله يراجعها جيدًا؛ لأنه من ذوي الميول الحسنة والأخلاقيات الجيدة.
إذًا النقد الموجود الآن ليس إلا أخذ ورد؟
- هو كذلك, لكن من وجه مقارب على سبيل، لعله غير دائم في سابلة على نهر وجيب.
ما الفرق بين النقد والملاحظة؟
- النقد هو تقويم العمل وبيان الخلل فيه، وطرح رأي لم يسبق إليه حسب الطرح المنتقد.
أما الملاحظة فهي بيان النقص أو الزيادة فيما طرحه العالم أو المثقف، وهذا موجود لو تابعت مناقشة الرسائل العليا أو الرسائل الذاتية.