حسن اليمني
حين تتجدد المراحل التاريخية في نمو المجتمعات جميل جدا الالتفات إلى الوراء وتقليب الصور التي غمرتها عقود من السنين ويكون الجمال في كماله حين تقع عينك على حال تتماثل وحال راهنك رغم سبات السنين وصمتها عقود وعقود.
ذات يوم من شهر يونيو عام 1918م كان المبعوث البريطاني السيد توماس لورنس قد وصل برفقة المحاربين العرب إلى طلائع بادية الشام شمال تبوك، وفي تخوم الربع الخالي جنوب الجزيرة العربية وبالتحديد وادي الدواسر كان مبعوث بريطاني آخر هو السيد هنري فلبي، كلا المبعوثين البريطانيين من أتباع الديانة المسيحية والطريف في الأمر أن أحدهما يقود عرباً ويتزعمهم ويقومون بخدمته، في حين يواجه الآخر غضب ونفور من عرب استفزهم ظهور «كافر» في ديارهم، ولو لا أنه كان في حماية الدولة لانقضوا عليه وعلى من معه في صورة تركيبية توحد فيها مشهدان متناقضان لإنسان واحد في ازدواج تناقضي لمشهد واحد أيضاً.
كان الغلو في التدين الناتج عن جهل بمثابة تزمت أو تطرف في الرؤية كاد أن يؤدي بأصحابه إلى خطأ جسيم إلى حد أن وصف السيد هنري فلبي الأمر كما قال «نباح العرب أشد من عضهم» لولا أن قوة السلطة ألزمتهم الحد وجعلتهم يعيدون حساباتهم ويطفئون غضبهم، وربما قد يلمح القارئ نفس الصورة الآن في وقتنا الحاضر فيما تم من تصحيح لبعض المفاهيم التي ربما صدمت البعض من أولئك الذين يأخذهم الغلو في التدين بجهل إلى مواقف مستريبة من التصحيح للمألوف الخاطئ، أن يتعود عقل على مشاهدة النساء مسبلات الرداء الأسود من الهامة حتى موطئ القدم وتسير مكبلة بالنظرات الحادة مستحية خجلا ثم يراها تتفاعل مع كرة خطيرة على خط الثماني عشرة في ملعب ممتلئ بالبشر رجالاً ونساءً، لاشك أن الفراغ الاستيعابي في هذا العقل قد يفجر الجمجمة لولا أن حنكة إدارة المجتمعات وسلطتها المهابة تعيد العقل إلى صوابه.
وفي أقصى شمال جزيرة العرب وبنفس التاريخ كانوا يستبشرون بقدوم المندوب البريطاني الآخر ويحتفون به ويحاربون تحت قيادته ويتباهون ويتفاخرون بتفجير خط سير القطار الممتد من إستانبول إلى المدينة المنورة، هي الحرب العالمية الأولى وكثير من العرب في داخل الجزيرة العربية ربما لم يأبه بها في حين ربما استثمرها العرب في الحجاز وبوادي الشام والعراق بالانحياز إلى بريطانيا وفرنسا ضد تركيا وألمانيا لتحقيق حلم الوطن العربي الموحد بسذاجة أدت في النهاية لاستعمار بريطاني وفرنسي اضطروا لمواجهته فيما بعد، دراما تاريخية مازالت مستمرة حتى اليوم تغيرت فيها المواقف وتبدلت فيها المواضع وتحولت فيها التوجهات وتلخبطت فيها الخطوط وبالطبع تغيرت فيها الظروف.
إن الصورة الممتدة بمسافة قرن من الزمن لا زالت تتسع لمزيد من الشخبطة الإضافية، وستبقى قابلة لكل إضافة وهي قابعة بين أضلع براويزها المحيطة بها إلى أن يقرر الراسم ماذا يريد، في اعتقادي لو أن الوطن العربي نشأ موحداً لترحمنا على أربعين داحس والغبراء، نشأت أقطار عربية صارعت بعضها حيناً من الدهر ثم انعطفت لتصارع ذواتها ومن داخلها، لكن الصورة المعقدة لا تخلو من لمسات الجمال التي نستطيع رؤيتها في أماكن أخرى -ولا أقول ذلك من باب التباهي الوطني بل بقراءة وتأمل واقعي والحلم ليس كفراً- أقول إن بلادي السعودية وهي المنسجمة مع تأسيسها متجهة نحو بناء الدولة بالمعنى الحقيقي، ردع التطرف والتزمت الجاهل كان حاضر منذ التأسيس وهو اليوم يتجدد، أضيف له اليوم المأسسة والترتيب والتنظيم والمحاسبة وهو في ورش بناء وتطوير، أرجو أنه سيأخذ بترقية الوعي الاجتماعي ليكون قادراً على المشاركة في إدارة وطنه.