أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: مِن المعلومِ أنَّ علاقةَ الملكِ عبدالعزيزِ رحمه الله تعالى بأمريكا مَرَّت بستِّ مراحلَ: المرحلةُ الأولى تمهيدية، والثانية علاقةٌ فعلية، والأربعُ الباقيةُ جهادٌ سياسي حول قضايا العرب والمسلمين، ومساوماتٌ من الطرف الآخر على جوهر العلاقة الفعلية؛ فالمرحلةُ الثالثة الرسائلُ المتبادلة بين الملك عبدالعزيز و(روزفلت) حول فلسطين، والمرحلةُ الرابعة لقاءُ الزعيمين بالبحيرات المُرَّة، والمرحلة الخامسة المراسلات بين عبدالعزيز و(روزفلت) و(ترومان)، والمرحلة السادسة العملُ المباشر للقضية الفلسطينية بعد الإفصاحِ عن المؤامرة العالمية على فلسطين وأهلِها؛ وهو إفصاحٌ سبقتْه مناوراتٌ ومراوغات بريطانيةٌ وأمريكية ؛ويحْكُم هذه المراحلَ الستِّ ظرْفان قائِمانِ مُقْلِقانِ: أولهما الهمُّ الداخلي لعبدالعزيز، وثانيهما الهم العربي الإسلامي لعبدالعزيز خارج رقعة مملكته؛ ففي الظرف الأول قبل أنْ يضمَّ عبدُالعزيز شبراً واحداً لتوحيد دولته التاريخية: كانت جزيرة العرب محاصرةً بالنفوذ الأجنبي؛ ولهذا بدأتْ مسيرةُ الملك عبدِالعزيز مع القوى العالميَّةِ المهيمنة على أرجاء المعمورة؛ والله غالبٌ على أمره عباده بحكمِه وحِكْمَتَه، وعِلْمِه بأحوال العباد؛ فكانت الانطلاقَةُ الأولى برسالَتِه إلى الرئيس (روزفلتْ) بشأن القضية الفلسطينية؛ وذلك في 7 شوال 1357هجريّْاً (2 نوفمبر 1938ميلاديّْاً)؛ وهذا نصَهُّا: ((يا صاحبَ الفخامة: لقد اطَّلعنا على ما أُذِيع عن موقف حكومة الولايات المتحدة الأمريكية في مناصرةِ اليهود في فلسطين؛ وبالنظر لِما لنا من الثقة في محبَّتِكم للعدلِ والإنصاف، وفي تمسك الأمة الأمريكية الحُرَّة بأعرقِ التقاليد الديمقراطية المؤسَّسة على تأييدِ الحق والعدل ونصرةِ الأمم المغلوبة؛ ونظراً للصلات الودية التي بين مملكتنا وحكومة الولايات المتحدة: فقد أردنا أنْ نلفتَ نظرَ فخامتِكم إلى قضيةِ العرب في فلسطين، وبيانِ حقِّهم المشروع فيها؛ ولَنا مِلءُ الثقةِ أنَّ بيانَنا هذا يوضح لكم وللشعب الأمريكي قضيةَ العرب العادلة في تلك البلاد المقدسة.. لقد ظَهَرَ لنا من البيان الذي نُشِر عن موقف أمريكا: أنَّ قضيةَ فلسطين قد نُظر إليها من وجهة نظرٍ واحدة؛ هي وجهةُ نظرِ اليهود والصهيونية، وأُهْمِلَتْ وجهاتُ نظرِ العرب؛ وقد رأينا من آثار الدعايات اليهودية واسعةِ النِّطاق: أنَّ الشعب الأمريكي الديمقراطي قد ضُلِّلتضليلاً عظيماً أدَّى إلى اعتبارِ مناصرةِ اليهودِ على سحْقِ العرب في فلسطين عملاً إنسانياً في حين أنَّ مثلَ ذلك ظُلْمٌ فادح وُجِّه إلى شعبٍ آمن مستوطن في بلادهِ.. كان ولا يزالُ يَثِق بعدالة الرأي العام الديمقراطي في العالم عامة؛ وفي أمريكا خاصة؛ وأنا على ثقة بأنَّه إذا اتَّضح لفخامتكم وللشعب الأمريكي حقُّ العرب في فلسطين فإنكم ستقومون بنصرته حَقَّ القيام.. إنَّ الحجةَ التي يستند إليها اليهودُ في ادِّعاآتهم بفلسطين هي أنهم استوطنوها حِقْبةً من الزمن القديم، وأنَّهم مُشَتَّتُون في بلاد العالم، وأنهم يريدون إيجادَ مجتمعٍ لهم يعيشون فيه أحْراراً في فلسطين، ويستندون في عملهم على وعدٍ تلَّقوْهُ من الحكومة البريطانية سُمِّيَ بوعدِ (بلفور).. أما دعوى اليهود التاريخية فإنَّه لا يوجد ما يبرِّرها في حين أنَّ فلسطين كانت ولا تزال مشغولةً بالعرب في جميع أدوار التاريخ المتقدمة، وكان السلطان فيها لهم؛ وإذا استثنينا الفترة التي أقامها اليهود فيها، والمدة الثانية التي سيطرت فيها الإمبراطورية الرومانية عليها: فإنَّ سلطان العرب كان[موجوداً] منذ الزمن الأقدم على فلسطين إلى زماننا هذا؛ وقد كان العرب في سائر أدوار حياتهم محافظين على الأماكن المقدسة، معظِّمين مقامَها، محترمين لقدسيتها، قائمين بشؤونها بكل أمانة وإخلاص؛ ولَمَّا امتدَّ الحكم العثماني على فلسطين كان النفوذُ العربي هو المسيطر، ولم يكن العرب يشعرون بأنَّ التركَ دولةٌ مستعمرةٌ لبلادهم؛ وذلك لوحدة الجامعة الدينية، ولشعور العرب أنَّهم شركاءُ الترك في الحكم، ولكون الإدارةَ المحلية للحكم بيد أبناء البلاد أنفسهم؛ فمما ذُكر نرى أنَّ دعوى اليهود بحقهم في فلسطين استناداً إلى التاريخ: [؛و] لا حقيقةَ لها؛ فإنْ كان اليهودُ استوطنوا فلسطين مدةً معينة بصورةِ استيلاء: فإنَّ العرب قد استوطنوها مدة أطول بكثير من ذلك؛ ولا يمكن أنْ يُعْتبَر احتلالُ أمةٍ لبلد من البلدان حقاً طبيعياً يبرِّر مطالبتَها به؛ ولو اعتُبِر هذا المبدأُ في العصر الحاضر: لحَقَّ لكلِّ أمةٍ أنْ تطالب بالبلدان التي سبق لها إشغالَها بالقوة حِقبةً من الزمن، وتسبَّب عن ذلك تغييرُ خريطةِ العالم بشكل من أعجب الأشكال؛ مما لا يتلاءم مع العدل، ولا مع الحق والإنصاف.. [؛و] أمَّا دعوى اليهود التي يستثيرون بها عطْفَ العالم أنَّهم مُشَتَّتون في البلدان، ومضطهدون فيها، وأنَّهم يريدون إيجادَكانٍ يأْوُون إليه؛ ليأمنوا على أنفسهم من العدوان الذي يقع عليهم في كثير من الممالك: فالمهمُّ في هذه القضية هو التفريقُ بين القضية اليهودية العالمية أو اللاسامية، وبين قضية الصهيونية السياسية؛ فإنْ كان المقصودُ هو العطفَ على اليهود المشتَّتِين: فإنَّ فلسطين الضيقةَ قد استوعبت منهم الآن مقداراً عظيماً لا يوجد ما يماثله في أيِّ بلد من بلدان العالم؛ وذلك بالنسبة لضيق أرض فلسطين، وبالنسبة لأراضي العالم التي يُقِيْمُ اليهود فيها؛ وليس في استطاعة رقعةٍ ضيقة كفلسطين أنْ تتَّسعَ لجميع يهود العالم حتى؛ ولو فرض أنها أُخْليت من سكانها العرب كما قال (المستر مالكلوم ماكدونالد) في خطاب ألقاه في مجلس النواب البريطاني مؤخراً؛ فإذا قُبِل مبدأُ بقاءِ اليهود الموجودين في فلسطين في الوقت الحاضر: فتكون هذه البلاد الصغيرة قد قامت بأعظم قِسطٍ إنساني لم يقم بمثله غيرُها، ويرى فخامة الرئيس أنَّه ليس من العدل أنْ تَسُدَّ حكوماتُ العالَم (وفي جملتها الولايات المتحدة) أبوابَها بوجه مهاجري اليهود، وتُكلِّفَ فلسطينَ البلدَ العربي الصغير لتحملهم)).
قال أبو عبدالرحمن: أعلم أنَّ جُمْلَةً مِن أشباهِ العوام سيقولون: المعروفَ أنَّ عبدالعزيز يتكلم بلهجة قومِه في نجد؛ وهم لا يُحسنون مثلَ هذا الكلامِ الْمُرَتَّب؛ فكيف استطاع عبدالعزيز إملاءَ هذه الرسالةَ المرتَّبَةَ الفصيحة في أكثرها.. كما أنَّ عبدالعزيز لا يؤمن إلا بدين الله؛ فكيف أثْنَى على الديمقراطية ذات المفهومِ الْعَلْمانيِّ؛ فإلى لقاءٍ في السبتية القادمة إن شاء الله تعالى؛ للإدلاءِ بما هو الحقُّ في مدارِكِ الملك عبدالعزيز لأعباءِ الْهَمِّ العربي والإسلامي سواءٌ أكان ذلك بصياغَة فصيحةٍ مِن مُسْتَشاريه، أم كان بلهجة قومه الدارجة؛ وهكذا مَوْقفُهُ الصحيح من الديمقراطية؛ فإلى لقاءٍ في السبتِ القادِم إنْ شاء الله تعالى, والله المُستعانُ.