فهد بن جليد
علَّقَ أحد كبار السن المُنوّمين في المُستشفى بأنَّ (ابنه) الذي يرافقه لم يكن مُرافقاً له في الحقيقة، بقدر ما كان مُرافقاً لـ(هاتفه الذكي) فهو مشغول بتصفحه كل دقيقتين، ليتجول بين مواقع التواصل الاجتماعي لمُتابعة الأخبار وكل الجديد، والإبحار في دردشات مع الأصدقاء، وهو ما أدخل الغرفة في صمت مُخيف مُطبق -يمتدُ لساعات طويلة- فالأب مريض، والابن مشغول في عالمه الخاص، والأجساد التي يجمعها المكان تُعبِّر عن مشهد (ابن بار) يرافق (أباً مريضاً) في المُستشفى، كذبة تختصر لك مشهد (كذبة أكبر) في واقع اجتماعي مُعيش مؤلم في مُناسباتنا, لقاءاتنا, اجتماعاتنا, زياراتنا, التي تجتمع فيها الأجساد بلا أرواح أو حياة - كنمط اجتماعي دخيل - في علاقات البشر.
هناك مثل سوداني طريف يقول: (الواتساب عامل زي الثلاجة، ما في شيء جديد، بس لازم تفتحو كل دقيقة) هذه المقولة تفضح وهم وسائل ووسائط التواصل الاجتماعي, والأهمية الزائفة بأن نكون مع الفوج الأول من المُرابطين في تلك المواقع والمنصات لمعرفة ما هو الجديد؟ والفوز به قبل غيرنا، ولنسأل أنفسنا ما الذي سنخسره لو أجلنا تصفّح كل تلك الوسائل في العالم الافتراضي، لحين الفراغ من احتياجات واقعنا ومحيطنا الأسري والعملي والاجتماعي, وما الذي سيفوتنا بالفعل؟ أترك لك تخيّل الإجابة وإن كنت مؤمناً بأنَّ الأغلبية منَّا لن يفرق معهم كثيراً تأجيل معرفة ما تحويه هذه الوسائل من جديد (لساعتين أو ثلاث), أو عدم معرفة ذلك أصلاً، وهو ما يتطلب إعادة جدولة أولوياتنا مع هذه الوسائل التي اقتحمت حياتنا عنوة، بحيث يحدد وقت مُعيّن للتصفح، بدلاً من جعله عادة في كل وقت، كما يُفضّل التخلّص من الإخطار والتنبيه بوصول رسائل جديدة أو دردشات، يُخيل إليك أنَّ الناس تسير في الشوارع بلا وعي كافٍ أو حضور ذهني نتيجة الانشغال بالهواتف الذكية وتصفّحها، وكذلك تفعل وهي تأكل، وهي تدرس، وتلعب، في الاجتماعات، في صالات الانتظار، في المساجد، في المقابر في كل مكان تقريباً.
الخوف من الوحدة والقلق والملل، والتظاهر بالانشغال والأهمية المُصطنعة والبحث عن الخصوصية وسط الناس، وعدم الاقتناع بما حولنا من شخوص وأماكن وأحداث، جعلت الإنسان يُدمن ملامسة شاشة هاتفه طوال الوقت دون سبب أو حاجة واضحة ومُقنعة، وهو ما يخلق نوعاً من العزلة بين الإنسان ومحيطه، كما حدث في حالة الأب وابنه الذي لم يكن يرافقه في المُستشفى فعلياً، أبطال قليلون بينَّنا تخلصوا من (لعنة التقنية) وسيطروا على أنفسهم، ما الذي يمنع أن نكون منهم؟
وعلى دروب الخير نلتقي.