عبدالعزيز السماري
في أيامنا الأخيرة قبل بدء ظاهرة الصحوة الدينية، كانت المدارس النظامية تُقام فيها حفلات نهاية السنة المدرسية، وكانت الموسيقى مسموحاً لها أن تُستخدم ضمن الأنشطة المدرسية، وإن لم تكن منهجاً من مناهج التعليم، وخلال مقدمات الصحوة الدينية بدأت حملة ضد سماع الموسيقى بين التلاميذ، وكان توظيف حديث «من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة» مؤثِّراً للغاية، وبمثابة السوط الذي طرد النشاط الموسيقي من المدارس..
نجحت الحملة الدينية في مساعيها، وتم إيقاف مختلف الأنشطة الموسيقية من المدارس، وكان الفضل يعود لتوجيه مبرمج لسلطة النص الديني على المجتمع، وإثارة الرعب في نفوس الذين يستمعون للموسيقى، فلا يمكن لمرء أن يحتمل صب رصاص مذاب في أذنيه، ويستمر في السماع للموسيقى بعد ذلك..
بعد نجاح تلك الحملة انتشرت ظاهرة التحريم لمختلف الأصوات غير الطبيعية، فتم تحريم الجرس على الأبواب، وتحريم السلام الوطني، وأصبحت متلازمة «قصِّر على صوت البرنامج أو المقطع لوجود موسيقى» مقدّمة لكل إهداء أو إرسال لبرنامج أو تسجيل لحادثة.
شارك بعض المتأثرين بحملات مداهمة وتحطيم للمحلات التي تبيع الآلات الموسيقية والأغاني في الأسواق، وساد الصمت الأجواء لفترة طويلة، وكان الفضل يعود لحالة الرعب التي تعتري الإنسان إذا فكر ولو للحظة أن الرصاص المذاب سيُصب في أذنيه إن سمع الموسيقى، وخرجت بدائل للموسيقى كان أشهرها أصوات العصافير وأصوات الرياح وأمواج البحر، وتم تأسيس قنوات تقوم على هذا المبدأ..
عادت بي الذاكرة سريعاً إلى أجواء تلك المرحلة أثناء متابعتي لردات الفعل على تغريدة للشيخ الكلباني أرفق بها مقطعًا صوتيًا لشيخ، يروي فيه حديثاً لرسول الله صلى الله عليه وسلم، يقول فيه: «من استمع إلى قينة صب في أذنيه الآنك يوم القيامة»، موضحًا أن الآنك يعني الرصاص وهو ما لا يستطيع أحد تحمّله، إلا أن الشيخ الكلباني أشار إلى أن هذا الحديث موضوع؛ أي غير صحيح، ما يعني كذبًا على الرسول صلى الله عليه وسلم؛ إذ قال في تغريدته: «للعلم فقط هذا حديث موضوع، يعني كذبًا على رسول الله?..
ما حدث مثال لتوظيف سلطة النص في مجتمع متدين، وتربى على أن الدين يعني الحكم الواحد والقطعي في كل الأحوال، وكان ذلك صورة ناصعة للأحادية المطلقة، فمن كان يجرؤ أن يقول للمفتي في ذلك الزمن إن الحديث الذي استشهد به موضوع، وقد كان لحديث مكذوب آخر دور رئيس في تحريم تدريس البنات في البدء، وهو لا تعلّموا نساءكم القراءة والكتابة وعلّموهن سورة النور، وتبيّن لاحقاً أنه حديث موضوع ومكذوب..
كان هذا الخلط المتكرر بين الأحاديث الصحيحة والضعيفة والمكذوبة مدخلاً لدخول أهل الحديث إلى الساحة من أوسع أبوابها، وكان رائد الحركة التصحيحية الشيخ الألباني - رحمه الله- وذلك عندما قدم إلى البلاد، ونجح في تقديم الأحاديث من خلال منظومة عقدية صارمة، عمادها صحة الأحاديث وقطعيتها، ولو كانت آحاداً، وكان الحركة التصحيحية أحد عوامل اشتعال ظاهرة الصحوة الدينية وطغيان ظاهرة الفتاوي والنصوص، وبالتالي نبذ الاختلاف المسموح، والرأي والرأي الآخر.
كان من أوائل المتأثرين بها حركة جهيمان، والتي خرجت من حلقات الشيخ الألباني، وقامت على حديث صحيح آحاد تم استخدامه كنص ديني قطعي لضرب أمن الدولة، وكانت النتيجة استخدام المسجد الحرام وبيت الله للاقتتال، وعلى الرغم من هزيمتهم، انتصرت الفكرة التي تقوم على سلطة النص الآحاد وقطعيته المطلقة..
كان المجتمع لاحقاً على موعد مع نصوص أخرى، مثل «لا يجتمع في الجزيرة دينان»، و»أخرجوا المشركين من جزيرة العرب»، وكان نص الفتوى التي أثارت حلقات من العنف ضد الدولة، أنه لا يجوز استقدام الكفرة إلى هذه الجزيرة، لا من النصارى، ولا من غير النصارى، لأن الرسول صلى الله عليه وسلم أمر بإخراج الكفرة من هذه الجزيرة، وأوصى عند موته صلى الله عليه وسلم بإخراجهم من هذه الجزيرة، وهي المملكة العربية السعودية واليمن ودول الخليج، كل هذه الدول داخلة في الجزيرة العربية..
وعلى الرغم من نجاح الشيخ الألباني - رحمه الله- في تطهير الفتاوي من الأحاديث الموضوعة والمكذوية، إلا أن خريجي مدرسة الألباني نجحوا في تقديم الأحاديث الآحاد الظنية الثبوت كنصوص قطعية ملزمة، وتمثّل حكم الله المطلق، بينما تدخل الأحاديث الآحاد في حكم الظن، كما اتفق عليها الأئمة ومرجعيات الحديث في القرون الأولى، وذلك موضوع آخر قد يُثار في المستقبل من قبل تلميذ من مدرسة سلطة النص الديني التاريخية ..