د. فوزية البكر
ترجل من سيارته مودعاً صديقه بعد العشاء وبقيا يتحدثان في موقف السيارات للحظات وفجأة أتي أحد الإخوة المقيمين مسرعاً ومشغولاً بإرسال رسالة عبر جواله ليضرب الصديقان في جنون فينعصر أبوراكان النحيل بين سيارتين ويتضرر من حوله الذين تراكضوا لنقله لأقرب مستشفى لكن روحه الطيبة فاضت إلى باريها قبل أن يتمكن أحد من إسعافه.
هكذا بكل بساطة يخرج رجل العائلة الذي يرعى بيته وزوجته وأولاده وإخوته وأخواته ليقتل ويغادر حياتهم وحياتنا في لحظة إهمال قيادة واضح كان يمكن تجنبها لو كنا نعطي للحياة القداسة التي يعطيها لها ديننا العظيم (مَن قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا) حيث إن قتل نفس واحدة يوازي عند الله قتل الناس جميعاً تعظيماً لحرمته.
عام 2003 كانت زميلتنا في قسم المناهج تحدثنا بفرح عيون الأمهات عن ابنها الذي تخرج أخيراً من الثانوية ليكون الأول على دفعته والآمال العريضة المرسومة وفجأة في اليوم اللاحق يذهب هذا الخريج وحيد والدته واثنين من أصدقائه ممن تخرجوا معه ويقتلون دفعة واحدة عبر صدام مروع. لا يمكن لكم أن تتخيلوا كيف قلبت حياة هذه الإنسانة رأساً على عقب. لقد اختفت تماماً من الحياة كلية ولم تتمكن من التعامل مع أي شي إلى اليوم.
تشير الإحصاءات المريعة إلى أن السعودية هي الأعلى عالمياً في نسب الحوادث المرورية حيث يقتل 17 شخصاً يومياً أي كل أربعين دقيقة وبخسائر مادية تفوق 13 مليارا في العام.
وفي محاضرة ألقاها د. زهير شرف عام 2013 ضمن فعاليات أسبوع المرور الخليجي الـ29، أشار فيها إلى ارتفاع عدد ضحايا الحوادث في السعودية الذي تجاوز في العقدين الماضيين أكثر من 86 ألف شخص، وقال إنه تجاوز عدد ضحايا حروب الأرجنتين، وحرب الصحراء الغربية، وحرب الهند وباكستان، وحرب الخليج، وحرب نيبال الأهلية، وحرب استقلال كرواتيا التي بلغ مجموع ضحاياها 82 ألف شخص.
ووصف شرف الحوادث المرورية في شوارعنا بأنها إرهاب شوارع، لا تقل خطورته عن الإرهاب الإجراميّ المُنظَّم، مشيراً إلى أن السعودية تحتل المركز الأول عالميًا في عدد حوادث الطرق.
ماذا علينا أن نفعل ولماذا نقف مكتوفي الأيدي دون عمل مدني منظم. يجب علينا كأمهات أن نفرض على السائقين أن يكونوا عقلاء رغماً عن أنوفهم فالذي يقتل هم أبناؤنا وأزواجنا وعوائلنا إذ هل يتصور أحدكم الآن وضع رقية زوجة علي: إنها كالطائر الذي سكبت في جوفه ماء نار وظل يفرفش ويطير ويتخبط في ذهول لا يدري ما حل به؟ كيف لإهمال متعمد عن طريق استخدام الجوال أثناء القيادة أن يحطم حياة امرأة كرقية؟ وتعال أسأل عن حال إخوان علي وأصدقائه وأبنائه وبناته الذين لا بستطيعون رغم المسكنات تصديق ما حدث.
نحن نتحدث عن علي العنيزان لمن لا يعرفه لأنه كان رمزاً وطنياً عظيماً ورجلاً قومياً متميزاً ومثقفاً صموتاً دؤوباً كرم الجميع. وغير ذلك مثل أسماء بناته صبراً (تذكيراً بمذبحة صبرا وشاتيلا) وأنصار (علي معتقل أنصار الذي أقامه الإسرائيليون سنة 1982 وزجوا فيه بآلاف الشباب الفلسطينيين).
أبا راكان كان ورحل كرمز وطني مشرف وعلينا من نبكي فراقه الآن أن نحول هذا الحزن إلى عمل يتسامي مع حياة الفقيد بإقامة جمعية وطنية لأمهات وزوجات وأبناء وبنات قتلى حوادث السيارات تكون يداً مساعدة للدولة في محاولتها المستميتة لإيقاف جنون الإرهاب المروري داخل شوارعنا.
كم من أم وأخت مروعة الآن في هذه اللحظة تحديداً وكم من زوجة وابن وابنة هم كذلك وما حجم التكاليف المباشرة وغير المباشرة التي تسببها الحوادث المرورية.
شيء ما يجب أن يفعل. لا يمكن لهذا الجنون أن يستمر. أعادكم الله سالمين إلى منازلكم.