د. محمد بن عبد الله المشوح
الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله..
في عام ألف وأربعمائة وتسعة عشر (1419)، كنت أُقدم برنامجًا في إذاعة القرآن الكريم، اشْتَهَر وعُرِف، كان يحمل اسم «في موكب الدعوة».
وكان هذا البرنامج يلتقي بالعديد من الشخصيات العلمية والثقافية من أصحاب الفضيلة، العلماء وغيرهم.
وكنت أتوق إلى معرفة حياة، وأعمال، وجهود هؤلاء الأعلام من العلماء ورجالات الدعوة، والعلم، والأدب، والثقافة.
كما كنت قد قَيّدت العديد من الأسماء؛ التي لم يكن لها حضورٌ إعلامي معروف؛ حيث إن كثيرًا من الناس يجهلون بعض تفاصيل حياتهم.
وكان هناك العديد من الأسماء الشهيرة في ذلك، ووقع اختياري على اسم شخصية معروفة مشهورة؛ وهو معالي الشيخ منصور بن حمد المالك -رحمه الله-.
قَدِمْتُ إليه في مكتبه بديوان المظالم، أو ما يُعرَف بـ»القصر الأحمر» في المربع، وطلبتُ مقابلته، وكان يعرفني قبل ذلك؛ حيث كنتُ أتردد إلى ديوان المظالم بصفتي محاميًا، فرحّب بي -كعادته ولُطفه مع الناس-، وضربت معه موعدًا للقاء والحديث معه عن حياته وسيرته.
على الرغم من أن الشيخ منصور بن حمد المالك لم يكن -رحمه الله- كثير الحديث، سواء عن نفسه أو عن غيره، فهو قليل الكلام، كثير الأفعال؛ إلا أنني استطعتُ -بحمد الله- أن أُقنعه بأهمية وضرورة هذا الحديث الإذاعي عن حياته، وسيرته، وتلامذته، وشيوخه، وزملائه، وأقرانه، وكذا عن حياته، وطفولته، وبعض من ملامح شخصيته، وشخصية والده الشهير الكبير الوجيه الشيخ حمد بن منصور المالك -رحمه الله-؛ حيث كان أحد وُجهاء وأعيان منطقة القصيم عمومًا، ومدينة الرس خصوصًا.
تحدث -رحمه الله- عن حياته، وسيرته، ومولده، ونشأته، وعن التحاقه بالمدرسة، وغير ذلك من التفاصيل التي سوف آتي عليها لاحقًا، والتي باح لي بشيء من تفاصيلها وأطرافها في ذلكم اللقاء الإذاعي الذي سمعه العديد من الإخوة والأخوات.
الشيخ منصور المالك اقتربتُ منه من خلال نافذتين:
- الأولى: بحُكم أنني أعمل محاميًا، ولي تَرَدُّد على ديوان المظالم.
وعلى الرغم من قِلّة دخولي إليه في عملٍ يخصُّ مهنتي -وهي المحاماة-؛ حيث إنني لا أذكر أنني دلفتُ عليه في موضوعٍ يخص عملي إلا مرةً واحدة؛ لكنني كنت دائمًا ألتقيه في مناسبات عديدة، وتوطدت هذه العلاقة من خلال محبتي له، التي شَعُر بها رحمه الله، فكنت لا أترك مناسبة يجتمع فيها عندي وفي بيتي العديد من العلماء ومن الفضلاء عندي إلا وكان الشيخ منصور المالك على رأسهم.
وعلى الرغم من اجتماعية الشيخ منصور المالك الشهيرة، وعلاقاته الواسعة؛ إلا أنه استطاع بقدرته وحُسْن توفيقه لوقته أن يُلملم تلك الدعوات المتراكمة من محبين وأصدقاء وأمراء ووجهاء إلى حتى يُلبي دعواتهم.
فلا ضير أن تشاهد معالي الشيخ منصور المالك ويصحبه شقيقه ورفيقه وخِلّه الشيخ محمد المالك في ليلةٍ واحدة، في أكثر من ثلاث مناسبات، يقتطع شوارع الرياض، يزاحم الوقت بنفسه، يتّكئ على أكثر من ثمانين عامًا يحمل عصاه معه، لا لشيء، إنما ليلبي دعوة، وليباشر مهمة حُسْن الخُلق بنفسه، ومحبته، ومودته، فيُهنّئ مَنْ له أفراح، ويواسي مَنْ عنده شيء من الأتراح.
الشيخ منصور المالك من اقترب منه -رحمه الله- يُدرك كما قلت سلفًا أنه قليل الكلام والأقوال، لكنه كثير الأعمال والأفعال.
ولم يكن غريبًا ومفاجئًا أن يحضر وهو في غاية ومنتهى مرضه معالي الشيخ ناصر أبوحبيب الشثري إلى مجلس العزاء، وهو يُكابِد آلام المرض ومشقة ركوب السيارة، وعناء الحضور، ويحمله أبناؤه وأبناء الشيخ منصور المالك بأيديهم، يتّكأ عليهم لأنه رفيق درب، بل لم يكن كذلك بحسب، بل هما يتشابهان كثيرًا في قلة حديثهم وكلامهم وكثرة أفعالهم وأقوالهم المجيدة الصالحة المباركة؛ التي اشتهروا بها من خلال قُرْبهم من الناس، ومحبتهم لهم، وحُب نَفْعهم للآخرين، ومشاركتهم للمجتمع في كل مناسبةٍ يستلزم الحضور فيها من قِبَلهم.
ومن الأمور التي علمتها ويعلمها الجميع عن الشيخ منصور المالك -رحمه الله- أنه حريص أشد الحرص على الإصلاح بين الناس، وإصلاح ذات البين.
واشتهر معالي الشيخ منصور المالك في هذا الجانب، حتى إبّان عمله القضائي في ديوان المظالم قاضيًا، ثم نائبًا للرئيس، ثم رئيسًا؛ فهو دائمًا يتبنى هذا المبدأ المبارك في الإصلاح بين الناس، وإصلاح ذات البين، وحل الأمور بشكلٍ ودي، والتخارج في ذلك.
والجميع يعلم -أيضًا- أن الكثير من البيوت التجارية في الرياض خصوصًا والمملكة العربية السعودية عمومًا، والتي كانت تَرِد خلافاتهم الكبرى والعميقة إلى ديوان المظالم، فيتصدى معالي الشيخ منصور المالك بحكمته وحِنكته، وهدوئه، وعقله، وحُسْن تدبيره في إنهاء تلك القضايا بشكلٍ عجيبٍ وغريب؛ حيث ينتهي الجميع وتنفض تلك الخصومة بصُلْح يُجريه الله سبحانه وتعالى على يدي المصلِح والقاضي الشهير الشيخ منصور بن حمد المالك -رحمه الله-، واطلعت شخصياً على كثير من تلك الحالات.
أما ما يتعلق باللقاء الذي أجريته -وهو لقاءٌ حصري وحيد ونادر- عن حياته وسيرته: فإني أقول في ذلك ما يلي:
أولاً: سألته عن مولده ونشأته:
فقال أنا منصور بن حمد بن منصور المالك، وُلِدُّت في مدينة الرَّس عام ألف وثلاثمائة وخمسين.
ودرستُ في المدرسة الابتدائية التي فُتِحت عام ألف وثلاثمائة وثلاث وستين هجريًا، وكنتُ في الدفعة الأولى من المتقدمين منها عام ثمان وستين، وكان نجاحي بتفوق -ولله الحمد-.
وبعد النجاح جئتُ إلى الرياض، واشتغلت مُدرسًا في المدرسة الأهلية بالرياض، ثم في المدرسة الفيصلية.
وبعد ذلك تركتُ التدريس، والتحقتُ بالمعهد العلمي بالرياض، وواصلتُ دراستي في المعهد العلمي، ثم في كلية الشريعة بالرياض حتى حصلتُ على الشهادة منها، ثم عُيّنت مُدرسًا في المعاهد والكليات.
وبعد ذلك بسنتين التحقتُ بديوان المظالم، ولا أزال أعمل بالديوان؛ حيث أمضيت فيه -قرابة أو- أكثر من خمسٍ وثلاثين سنة.
- ثم سألته عن والده الوجيه الشيخ/ حمد بن منصور المالك فقال:
الوالد -رحمه الله- كان من أكثر الناس تَمَسُّكًا بالعقيدة الإسلامية والأمور الدينية، وأكثرهم امتثالاً لتنفيذ أوامر الله سبحانه وتعالى، واجتناب نواهيه.
وكان يلاحظ أبناءه لأداء الصلوات في أوقاتها مع الجماعة لصِغَر سِنّهم، وقد خصص لبعض أولاده قبل فَتْح المدرسة بعض المعلمين يُعلّمونهم القرآن الكريم.
وكان -رحمه الله- من أشد الناس محبةً وإخلاصًا للملك عبدالعزيز وأبنائه من بعده.
كما كان -رحمه الله- يمد يد العون والمساعدة لكل مَنْ يحتاج إليه، سواء من ماله أو من جاهه، وكان بيته مفتوحًا لكل وافدٍ يصل إلى مدينة الرَّس؛ سواء من مندوبي الحكومة أو غيرهم، وكان لا يبخل على أحدٍ بشيء.
كما أنه لديه غَيْرة على بلاده وعلى إخوانه أبناء مدينة الرَّس، وحِرْصٍ على جَلْب جميع ما ينفعهم ويفيدهم في مصلحة وطنه.
وقال: لقد عِشْتُ حياة الدراسة في الرياض وفي المعهد العلمي، وقد كان لي اتصال مستمر بمشايخنا الأفاضل الكبار أمثال سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم رحمه الله، والشيخ عبداللطيف بن إبراهيم -غفر الله له-، وكذلك سماحة الشيخ عبدالعزيز بن باز، وسماحة الشيخ عبدالله بن حُميد، وغيرهم من المشايخ..
ولا شك أن الاتصال بمثل هؤلاء المشايخ الأفاضل سيكون له أثرٌ إيجابي على تَصَرُّف الإنسان وسلوكه ونَهْجه التعليمي وغير التعليمي.
وكان هؤلاء وغيرهم ممَّنْ قاموا بتدريسي لهم الأثر الكبير في توجيهي إلى ما فيه خيرٌ لي في ديني ودنياي.
- ثم سألته عن التحاقه وعمله في ديوان المظالم وأعمال الديوان.
فقال: لا شك أن ديوان المظالم هو امتدادٌ للنهج المبارك الذي ترعاه هذه الدولة المباركة في تطبيق شَرْع الله سبحانه وتعالى، وهو جزء من القضاء الذي تمارسه هذه الدولة في شتى مؤسساتها وأعمالها..
ديوان المظالم كان عبارة عن شعبة في مجلس الوزراء، وفي عام ألف وثلاثمائة وثلاثة وسبعين صَدَر مرسوم ملكي بإنشاء ديوان المظالم كجهةٍ قضائية مستقلة، ترتبط بجلالة الملك مباشرة، وهو له نظام داخلي ولائحة داخلية.
واستمر العمل بهذا النظام حتى عام ألف وأربعمائة واثنين؛ حيث صَدَرَ نظام ديوان المظالم الجديد، وكان فيه من التفصيل والإيضاح أكثر مما في النظام الأول؛ حيث أصبح النظام يجعل ديوان المظالم هيئةً قضائية مستقلة، مرتبطة بجلالة الملك مباشرة.
ومن اختصاصات ديوان المظالم:
- النظر في جميع الشكاوى الْمُقدّمة إليه من المتعاملين مع الدولة موظفيها أو غيرها فيما يتعلق بأعمال الحكومة.
- كذلك النظر في العقود الإدارية، وطلب التعويض من المتعاقدين مع الوزارات والمصارف الحكومية.
- وهو ينظر إلى جانب ذلك أيضًا قضايا التزوير، وقضايا الرشوة، وقضايا الاختلاس، وقضايا تزييف الإملاء.
- وينظر أيضًا القضايا التأديبية، وهي تأديب الموظفين الذين يسلكون مسالك لا تتفق مع حُسْن سَيْر العمل في الوظيفة.
- وينظر أيضًا في صحة وتنفيذ الأحكام التي تصدر من الدول العربية إذا كان لها مع المملكة اتفاقية تفضي بتنفيذ الأحكام فيما بين الدولتين.
- ثم أضيف إليها أيضًا القضاء التجاري؛ فهو الآن ينظر القضاء التجاري الذي كان يُنظَر من قِبل هيئة خصم المنازعات التجارية.
ومن ضمن مواد النظام أنه كل ما يُحال إليه من مجلس الوزراء من قضايا يقوم بها حتى ولو لم يكن داخلاً ضمن الأشياء الْمُعددة أو المذكورة في النظام.
هذا خلاصة ما يقوم به ديوان المظالم، وما يباشره طبقًا لنظامه الأساسي؛ وهو -كما تفضلتم- هيئة قضائية.
وكما تعرفون أن الولاية مُقسمة إلى ثلاثة أقسام:
- ولاية المظالم.
- وولاية القضاء.
- وولاية الحِسْبة.
وولاية المظالم هي من أعظم الولايات؛ لأنها في السابق كان يتولاها ولاة الأمر بأنفسهم، وكان الملك عبدالعزيز -رحمه الله- يجلس للمظالم بنفسه، وينظر في كل مظلمة، ويُنهي هذه المظالم بإعطاء كل ذي حق حقه، ورَدْع الظالم عن الظلم، ومَنْعه من ذلك.
واسترسل في العديد من الجوانب المتعلقة بأعمال ديوان المظالم وطرق وآلية التقاضي بين الخصوم، وقدّم بعض التوجيهات العامة والناصحة.
رحم الله الشيخ منصور بن حمد المالك، فقد كان شخصية علمية قضائية بارزة وجبر مصاب أهله وإخوته وأبنائه وذويه ورزقنا جميعاً الصبر والاحتساب.