محمد المهنا أبا الخيل
كثير ما يحدث نقاش بين اثنين أو أكثر حول مواضيع معاصرة، فكرية كانت أو معيشية، وخلال النقاش يحتد أحدهم أو ينسحب من النقاش بعصبية احتجاجاً على وجهة نظر أو اعتراضاً على مقولة طرحت أثناء النقاش في سبيل دعم حجة أو الدفاع عن موقف، وقد يتساءل البعض: ما الذي يدفع البعض للحدة في النقاش والهجوم اللفظي والرغبة في تسكيت المناقش الآخر؟، ولماذا ينسحب البعض من النقاش إذا لم يستطع إقناع المناقش بحسم النقاش بتغيير موضوع الحديث؟.
قد يكون الجواب على هذا التساؤل هو القول « بأن كثيرا من الناس لا يستطيع احتمال الخلاف حول وجهات النظر التي يعتقد بأنها مسلمات « أو القول « بأن هناك من يستشعر الإثم في نقاش أمور يعتبرها من الدين معلومة بالضرورة « أو القول « إن هناك من يشعر بقوة حجة الآخر ولا يحتمل الهزيمة الفكرية لكونه صاحب وجاهة أو مرتبة اجتماعية يرى الضرر بذلك من الموافقة على استنتاجات جديدة «.
في كل الحالات هذه الظاهرة والتي تلازم البعض عند النقاش وتثير الحدة والهجوم اللفظي على الآخر هي حالة نفسية تسمى، علمياً التنافر المعرفي (Cognitive Dissonance) وقد قال بها عالم النفس الإجتماعي الأمريكي (ليون فستنجر)، حيث يرى أن كثيرا من الناس كون في مراحل مختلفة من حياته معتقدات ومسلمات وقيما وأفكارا متناقضة أو غير منسجمة ذهنياً، وعندما يستشعر هذا التناقض الذهني يتوتر وينفعل في صورة رغبة إلى حسم ذلك التناقض, وفي الغالب يكون ذلك في الهروب من المثير الذي جعله يستشعر هذا التناقض، وهو ما يترافق دائماً مع حالات النقاش في الأمور المثيرة للجدل.
يعتقد البعض أن هذه الحالة من التوتر والانفعال تحدث عند ضعاف الثقافة أومتدني التعليم، لذا يتبادل المتجادلون عند تنامي الحالة عند واحد أو أكثر منهم عبارات التجهيل والتسفيه والغباء، ولكن الملاحظ أن هذه الحالة لا علاقة لها بالجهل أو السفاهة أو الغباء، وهي بين المثقفين وذوي التعليم العالي أكثر حدوثاً منها لدى من سواهم، وكلما كان مجمتع النقاش متنوع التوجهات الفكرية زاد حدوث الحالة، وهي أيضا ليست مقصورة على المفكرين المحافظين بل أنها أكثر حدوثاً لدى دعاة الليبرالية والتفكير الحر.
في مجتمعنا السعودي، حيث حدث تغيير إجتماعي كبير خلال فترة زمنية وجيزة فمن مجتمع شبه مغلق حضارياً في معظم أنحائه بدايات القرن العشرين،إلى مجتمع منفتح ومتلاقح في ثقافته مع ثقافات قريبة وبعيدة ومؤثرة في المسرح الحضاري العالمي في الوقت الحالي.
هذا التغيير السريع أخل بكثير من المفاهيم والقيم والتوجهات الفكرية وخلق مجتمعا متنوع التوجهات والتطلعات والروى، هذا التنوع لازال في مراحل التكوين، مع تبلور التكوين الاجتماعي الفكري حول مشتركات تمثل في حد ذاتها مكونات فكرية اجتماعية، وكل من تلك المكونات الفكرية الاجتماعية يطمح لتوسيع مكونه على حساب المكونات الأخرى وعادة ما تكون الوسيلة في ذلك هي النقاشات والجدالات والكتابات والتي تتمظهر فيها حالة التنافر المعرفي.
التنافر المعرفي يقود لحالة من القلق والتوتر, إذا أصبح مزمنا لدى صاحبه، وقد يتطور ذلك القلق إلى اكتئاب أو ارتياب وخوف من الحديث مع الناس وفقدان للثقة بالنفس، ومع ذلك يمكن علاج التنافر المعرفي من خلال العلاج النفسي الأكلنيكي، أو من خلال الوعي بوجود ذلك وممارسة تمارين (التأمل والتدبر)، حيث يلاحظ صاحب الحالة ما يثيره من جدالات ويستخلص الأفكار والآراء المطروحة ويحاول إيجاد التجانس بينها، وقد يستدعي ذلك مزيدا من البحث والقراءة في تلك المواضيع؛ فمعظم الخلافات الفكرية تحدث نتيجة القصور في استيعاب الأفكار والطروحات، الميل إلى الظن بما يتوافق مع الحالة النفسية والقيم الراسخة.