د.ثريا العريض
الإبهام العبثي مرفوض. الكلمة قد تأتي إبداعًا خالصًا شعرًا أو نثرًا ذاتي المنبع, تعبر عن مشاعر صاحبها, وقد تأتي إيصالاً لمعلومة بأسلوب يجب أن يستدعي التفكر في تداعياتها. في الحالتين تفقد الكلمة قيمتها إن جاءت إبهامًا لا ينفذ منه المتلقي السامع أو القارئ للب مكنونها. وهو غير الغموض أو الرمزية اللذين قد تستدعيهما تفاصيل الظروف المكانية والزمانية للمبدع. هما لا يحرمان المتلقي من «دغدغة الدماغ» التي تؤدي إلى تجاوبه بالتفكير والفهم واستعير هنا كلمة «دغدغة» من بعض ما أمتعنا به الشاعر علي الهويريني في حوارنا المسجل تلفزيونيًا لقناة أبو ظبي بمناسبة المعرض الدولي للكتاب في الرياض وشعاره «الكتاب مستقبل التحول»..
آمل أن هذا المعرض ينفي غياب المثقف. أتألم كمتابعة عند تأمل ما يملأ الساحة من المؤلفات والمقولات لزخم كتّاب محليين وعرب فأرى جلهم يطمح إلى تصنيف «مثقف» أو «مبدع» , ولكن ما ينتج لا يعدو كونه فقاعة, تقليدًا لإبداع غيره, بل سرقته بحذافيره أحيانًا؛ فينتفي فيه أي قصد هادف سوى رغبة الظهور الذاتي والتسامق متسلقًا على نبتة لا يملك فعليًا بذورها وجذورها. وكثير منها يقلد قشوريًا بلزوجة هذيان أو إبهام تام لا يستوعب القارئ فحواه.
وأتذكر أنني سبق أن أشرت في أطروحة لي قبل عقود: «الجزم أن دور المثقف العربي تجاه واقعه غائب, يفترض أولاً أن مفهوم المثقف العربي واضح في حوارنا حوله, وثانيًا أنه فعلاً لا يقوم بأي دور في مجتمعه. فمن هو المثقف؟ يبدو لي أن هناك أكثر من فكرة سائدة لتعريف المثقف تحمل كثيراً من السطحية والالتباس, منها مثلاً أن المفكر هو ذاك الذي يعبر عن رأي ما في الصحف والإعلام, بغض النظر عن مدى ذلك الرأي من الصحة والعمق. أو ذاك الذي يحمل شهادة جامعية أو متخصصة, دون النظر في المجال المتخصص فيه ومدى ضيقه أو اتساعه, أو ارتباطه بالثقافة ككل. أرى شخصيًا أن المثقف هو المفكر الذي يحمل رؤية شمولية لأوضاع المجتمع, إضافة لمعرفة تخصصية في جانب ما تؤهله لإيجاد حلول نظرية أو عملية لبعض المعضلات التي يواجهها هذا المجتمع في تفاعلاته الآنية. وليس من الضروري أن يكون المثقف نشطاً إعلامياً. ولكن من الضروري ليعتبر ضمن مثقفي المجتمع أن يكون له دور فاعل في أحد جوانب تفاعلات المجتمع الأكاديمية أو المهنية أو المتخصصة. وربما أغلبية من نطلق عليهم لقب مثقفين هم مثقفو تنظير وكلام وليسوا مثقفي فعل وإضافة. فجلهم مثلاً يهتمون بالظهور وبالتعليق في الندوات, إن لم يكن الخطابة على منبر, أكثر من القيام بفعل شيء عملي يضيف شيئا ملموسًا لتسهيل هذه التفاعلات أو تحسينها. والغالب أن ينشغلوا بالنقد ويعجزوا عن تقديم حلول, أو اقتراح مجالات التغيير. وقد تكون معرفة من نعتبره مثقفًا محصورة في تخصص في موضوع محدود كتفاصيل حدث تاريخي قديم مثلاً. ومع هذا فنحن نطالبه بحلول لشتى مشكلات المجتمع التي تنبع من نواحٍ يجهلها.
مجتمعنا المحلي والخليجي والعربي لا يخلو من المثقفين, سواء من يحظى منهم بمنبر إعلامي يعبر فيه عن رأيه أم لا. ولكن المثقفين بمعنى «المفكرين» برؤية شمولية, نخبة قلة في كل مجتمع. بينما أكثر منهم المتخصصون في مواضيع ومجالات بعينها, والأكثر فعلاً من يكتبون دون خلفية معرفية. والغالبية العظمى ما زالوا متلقين سامعين وقارئين بلا استيعاب.. ربما فقط حافظون.
وليتنا بالبرنامج الممنهج القائم لإحداث التحول نولّد في أرضنا مفكرين.