د. عيد بن مسعود الجهني
لاشك أن الكتابة عن العالم والفقيه معالي الشيخ منصور بن حمد المالك رحمه الله وأسكنه فسيح جناته صعبة لأنه شخصية عالية تتقاصر عنها الكلمات مهما تطاولت وتعجز الجمل عن إيفائها حقها مهما تجاسرت، فهو رحمه الله شجرة طيبة وارفة الظل..شخصية فريدة تجمع كل الصفات الطيبة.
لذلك فإن الكتابة عنه طيّب الله ثراه في مقال محدد المساحة لن توفيه حقه فجهوده أكبر من أن يحصيها مقال واحد وعطاؤه أكثر من أن يذكر في ثناياه، وما سأكتبه من أسطر هو فقط إبراز لنزر قليل مما قدمه لوطنه وأولا لدينه وإذا قلت أنني سأوفيه حقه فإنني قد كلفت نفسي شططا.
الشيخ العالم الفقيه أسكنه الله جنة الخلد كما نوهت شجرة باسقة طيبة الثمار وارفة الظل استظل بفيئها وتمتع بطيب ثمارها كل من عرفه وكل من لم يعرفه من طلبة العلم في ميدان الشريعة الغراء فهو معهم يقطر رقة ويفيض كنانة ينهلون من معين علمه الواسع.
ومن خلال هذه الأسطر أستسمح محبيه وطلابه وهم كثر عن التقصير فالمساحة لهذه الأسطر لا تكفي لنقول كل أو حتى بعض ما نعرفه عن هذا العالم الجليل فلهم العذر حتى يرضوا.
لماذا؟ لأن الصعوبة التي واجهتني في الكتابة عن الشيخ الفقيه أحسب أن لها سببين:
أولهما: إن العاطفة بطبيعتها إذا جاشت تشوش على العقل والفكر وأنا أعترف أنني أكن للشيخ المالك رحمه الله حبا عميقا ولي تجاهه عاطفة قوية صادقة.
وثانيهما: أن كل كلمة أو جملة تراودني عن نفسها واستعرضها لأدونها أجدها قزمة بجانب قامة عالم فاضل في مقام شيخنا وفقيهنا ووالدنا الشيخ المالك.
ولذا وكما قلت فإن هذا اعتذار مسبق عن أن ما سأكتبه عن الفقيه الجليل لن يفيه حقه مهما اجتهدت في ذلك واخترت من الكلمات والعبارات أعذبها.
إن النفوس جبلت على حب أهل العلم والعلماء، أهل الخير والعطاء، أهل الورع، أهل الصلاح.. والشيخ رحمه الله عالم ورع مخلص عابد عفيف اللسان يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، إيمانه شديد بالله وتمسكه بأهداب الدين الحنيف.. الدين الوسط البعيد عن الغلو والتطرف والإرهاب دين الله الخالد {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا } (3) سورة المائدة.
إنه صاحب صفات جامعة.. فإنسانيته دفاقة، وروحه وثابة لفعل الخير.. عرف بقيمه النبيلة والتمسك بالمثل العليا.. نفس رقيقة سمحة النفس، يقول الشاعر:
ألسن ضاحكة والكف فاتحة
والنفس واسعة والوجه منبسط
هذا الشيخ الجليل الذي اختاره الله جلّت قدرته إلى جواره كان من صفاته الصدق.. الصدق الذي يدعو إليه الدين الحنيف والعقل والمروءة (فلا سيف كالحق ولا عون كالصدق)، إنه شيخ جليل عنوانه الدعوة إلى خدمة الدين والوطن والمجتمع.
كان رحمه الله خلوقا متواضعا اجتمعت فيه مكارم الأخلاق والعلم والعقل، أحكمته التجارب فزادته حكمة وتواضعا، يسكته الحلم وينطقه العلم لا يقول لسانه إلا خيرا كما يقول الشاعر:
عود لسانك قول الخير
إن اللسان لما عودته يعتاد
والحلم والصبر والأناة والصفات الطيبة الأخرى اجتمعت بفضيلة الشيخ رحمه الله، وهي من الصفات التي يحبها الله سبحانه وتعالى قال تعالى {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} (200) سورة آل عمران، ويقول تعالى {وَاصْبِرْ وَمَا صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللّهِ } (127) سورة النحل.
عرف رحمه الله بالتواضع الجم يحترم الكبير والصغير مما جعله قريبا إلى قلوب الناس.. قريبا إلى طلبته وإلى إخوانه العلماء والفقهاء، كما عرف بالحلم والأناة وهما صفتان يحبهما الله ويحبهما الناس، فعن ابن عباس -رضي الله عنه- قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأشج عبد القيس (إن فيك خصلتين يحبهما الله: الحلم والأناة) رواه مسلم.
كنت قبل أن أعرف معالي الشيخ عن قرب أتساءل ما الذي يجعل من يعرفونه يجمعون على حبه؟ والناس قلما يجمعون على حب احد ، وحاولت أن أجد الإجابة من خلال القراءة عنه في قراءة القليل مما كتب لأنه كتب الكثير مما هو مدون في بطون بعض البحوث العلمية التي كتبها الشيخ والتي حصلت على نزر قليل منها.. والإجابة الكاملة وجدتها بعد أن عرفته عن قرب والتقيت به وسمعت حديثه العذب وأطروحاته التي لا يمل أي إنسان من سماعها.
اليوم ومع مهابة الموقف وشيخنا في ذمة الله إلى جنات الخلد فإنني أجد الكتابة عن عالمنا وفقيهنا المالك واجبا تحتمه عليّ شيم الوفاء والعرفان كما تحتمه محبة خاصة أكنها له، ولكنني عندما أمسكت بقلمي لأكتب عنه وجدت صعوبة جمة ، فالقلم تعثر وتعسرت ولادة الكلمات في مثل هذا الموقف الجلل، لكنني سألت نفسي أين انطلاقة القلم في غير هذا وانطلاقة اللسان ؟ لتكتب عن عالم رحل عنا في ديار الدنيا إلى جوار ربه.
ومن يدقق في سيرة ومسيرة الشيخ المالك يرى أنه كان رحمه الله نوعا نادرا من طلبة العلم في بداية حياته العلمية، والعملية فقد تتلمذ على يد سماحة الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ وفضيلة الشيخ عبد اللطيف بن إبراهيم آل الشيخ، فهنا تبرز ملامح شيخنا المالك فهو اختار منبع العلم الشرعي الوسطي، فعلى أيدي هؤلاء العلماء الأفاضل نهل من بحر علمهما في أصول الفقه والتوحيد والتفسير وعلم الفرائض وقواعد اللغة العربية.
لم يكتف الشيخ بهذا فهو رحمه الله تأسس على أصول الشريعة الغراء وتشرب بها من منبع أصيل، ثم بدأ خطوات ممنهجة على نفس الطريق للاستزادة من بحر الشريعة الواسع فالتحق بالمعهد العلمي بالرياض وأكمل دراسته في ذلك المعهد الشهير عام 1375هـ ولأنه وهب نفسه للعلم فقد واصل دراسته في نفس التخصص في كلية الشريعة التي حصل على شهادتها عام 1379هـ.
ومن الكلية الشهيرة إلى ميدان العمل في نفس التخصص ليتفانى في تربية وتعليم جيل يخدم دينه ووطنه فكان يسهر على توجيه طلابه، لايبخل بوقته وجهده ليل نهار فكان الشيخ (جوهرة نادرة) بعيون تلاميذه الذين منحوه حبهم واحترامهم والعديد منهم بيننا اليوم، وهذا هو الشيخ الذي أصبح معلما في العام 1368هـ في المدرسة الأهلية بمدينة الرياض، ثم في المعهد العلمي في مدينة المجمعة.
واستمر شيخنا ووالدنا الجليل في هذا الميدان الشريف يقدم عطاءه العلمي لتلاميذه في معهد الرياض العلمي الذي أنهى دراسته فيه ليصبح أحد معلميه في عام 1379هـ ليعود تلميذ الأمس في ذلك المعهد إليه معلما يتفانى في توجيه وتعليم طلابه الذين أحبوه حبا جما، هذا الحب ليس منحة ولكن الشيخ المالك اشتراه بإخلاصه وعطائه وتفانيه.
ومن فصول الدراسة التي عرفته أستاذا نادرا في علمه وخلقه وتواضعه إلى العمل في السلك القضائي.. وأي مجال في ميدان القضاء.. ديوان المظالم.. هيئة قضائية مستقلة.. تسميتها عندنا (ديوان المظالم) وعند دول أخرى مثل فرنسا ومصر مجلس الدولة، وديوان المظالم باختصار من اختصاصاته الرقابة القضائية الفاعلة على أعمال الإدارة يتصدى للدعاوى المرفوعة أمامه لضمان حسن تطبيق الأنظمة واللوائح تحقيقا لإرساء قواعد العدل والإنصاف..إلخ.
أتذكر أنني كتبت مقالات في مجلة تجارة الرياض طالبت بنقل اختصاصات محكمة المنازعات التجارية من وزارة التجارة إلى الديوان في أواخر الثمانينيات وفعلا حصل هذا فأصبح الديوان صاحب اختصاصات تجارية أيضا فتوسع نطاق صلاحياته اليوم.. وهو من أهم أجنحة السلطة القضائية في بلادنا، تطور كثيرا خلال مراحل زمنية متعددة ومنها مرحلة رئاسة الشيخ لهذا الديوان.
الديوان التحق به في عام 1381هـ محققا شرعيا وتدرج ليصبح رئيس محكمة (ب) ثم رئيسا لمحكمة (أ) وبعد هذه المسيرة والخبرة تم اختياره رئيسا لهيئة التمييز، واستمر في بذل جهوده متفانيا في عمله ليتم اختياره نائبا للرئيس.
ولأنه عرف على مدى مسيرته العلمية والعملية بشهادة من عرفوه وزملائه، باهتمامه وتفانيه غير المحدود وإخلاصه في خدمة دينه ووطنه وأجمع الناس على محبته فقد تقلد منصب رئيس الديوان، وهو منصب يستحقه الشيخ بامتياز، وقد عمل على تطوير الديوان مستغلا خبراته الطويلة التي بدأها محققا شرعيا فطبق الإدارة بعلمها وفنها في إدارة دفة الديوان.
لقد كان شيخنا قائدا إداريا فحقق عناصر النجاح في الزمن الذي حدده وخطط له وطبقا للحدود والأهداف التي رسمها في إدارة دفة الأمور في الديوان، وهذا يشعر به كل من كان منتسبا لهذا الجهاز القضائي النشط الذي كان وسيبقى يذكر أن الشيخ كان له مساهماته الطيبة المباركة في تطور أداء الديوان لوظائفه ومسئولياته الهامة كجهاز رقابي يخدم مصالح الدولة والمواطنين.
وإذا كان عالمنا ووالدنا الذي غيّبه الموت عنّا قد جمع بين علم التدريس وعلم الشريعة الغراء والقضاء وعلم الإدارة فإنه سار في نفس هذا الخط المستقيم في بحوثه ومذكراته فمن بحوثه (الفصل في المظالم) وهو بحث قدمه بمناسبة مرور مائة عام على تأسيس المملكة وهذا يبرز لنا مدى اهتمامه رحمه الله بالقضاء عموما والقضاء الإداري خصوصا وتطويره، ليس هذا فحسب فالشيخ من علم القضاء الذي له قدح معلى فيه إلى علم الإدارة الحديثة فها هو رحمه الله يقدم لنا بحثا فريدا في الإدارة اختار له عنوانا (الوقت وأهميته) إنه يبرز لنا أن هذا الزمن هو زمن الإدارة.. الإدارة بالأهداف والنتائج التي هي مفتاح التطور والتقدم والتنمية المستدامة، والإنسان هو المحور الرئيس للإدارة، العنصر البشري هو العمود الفقري لكل تطور وتقدم إذا ما تسلح بالإدارة واحترم الوقت والزمن، وهذا ما قصده الشيخ الفاضل الذي تفتح له المجالس صدرها محبة وإجلالا ويقبل رأسه كل من عرفه وأنا واحد منهم ، وكرّمه وطنه وكتب عنه مفكرون وأدباء ومثقفون وإعلاميون وشعراء ما لو جمع لكان كتبا وأسفارا.
عالمنا وفقيهنا قبل وبعد تقاعده رحمه الله كان منزله شارع الأبواب لطلبة العلم ففي كل يوم جمعة مباركة وبعد صلاة المغرب وحتى صلاة العشاء يلتف حوله طلبة العلم في كل مصادر علم الشريعة الغراء دراسة وتفسيرا حتى أصبح طلبته ومحبيه يزداد عددهم يوما بعد آخر ينهلون من علم شيخهم الجليل.
رحم الله عالمنا وفقيهنا الجليل ووالدنا وأسكنه فسيح جناته إنه نعم المولى ونعم النصير.
وتعازينا الحارة بهذا المصاب الجلل لإخوانه الأفاضل الأساتذة صالح ومحمد وخالد وأنجاله الأستاذ عبد الله وإخوانه وأسرة آل مالك والشعب السعودي.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ}