عمر إبراهيم الرشيد
من المعروف أن نجيب محفوظ -رحمه الله- كان ينسج فصول رواياته في المقهى، مرهفاً سمعه لما يدور حوله من حوارات ونقاشات، ملتقطاً مشاهد عابرة في الشارع أو من شرف العمارة المجاورة، لذا جاءت رواياته مرآة لواقع المجتمع المصري.
في مدينة هامبورغ بألمانيا استأجر كاتب درامي يدعى كريستوف بوش كشكا في محطة المترو، لهدف الاستماع لمرتادي المحطة وما يرغبون في التنفيس عنه من هموم وشجون. أغلب من يتقدم لصاحب الكشك الإنساني هذا يسأل عن الثمن، لكنهم يفاجؤون برد كريستوف بأن خدمته مجانية، وهدفه جمع قصص وحكايات وهموم اجتماعية من أصحابها، لتكون مصدراً لكتاباته سواء للتلفزيون الألماني أو الصحافة أو الكتابة الاجتماعية.
في هذه القصة تأكيد على تميز الألمان، ولا غرابة حين تحتل ألمانيا رابع أقوى اقتصاد في العالم بعد أن احتلت الصين مقعد اليابان الثاني. كأن هذا الشعب وبعد أن اكتوى بنار حربين عالميتين قد مر بعمليتي صهر ثم إعادة صياغة لمفاهيمه الاجتماعية والثقافية، ولمن يتأمل في ذلك المجتمع تجده حر التفكير ممتلكاً لأدواته النقدية الملائمة لتكوينه، بعد أن نفض ركام الحرب وأعاد البناء وهيكلة الاقتصاد وأرسى دعائم المجتمع المدني ومؤسساته.
الطريف في مبادرة هذا الكاتب الدرامي أن ذلك الكشك يتصف بالحميمية الاجتماعية له ولمن يمر به، فقد علق إعلاناً على أحد جوانبه محتوياً رقم الهاتف والبريد الإلكتروني في حالة رغب أحد من مرتادي المحطة في التواصل وإخباره بأي تطورات، أو كان الكاتب مشغولاً مع أحد الزوار لتضاء في هذه الحالة إشارة حمراء. داخل الكشك وضع كريستوف مكتباً صغيراً وعليه جهازه المحمول وصحن بسكويت إلى جانب مطبخ صغير، معلقاً صوراً لعائلته وورقة كتب عليها (اخدم نفسك)، كشك يكشف عن إنسانية هذا الرجل حين كتب لافتة أخرى تقول (لست معالجاً إنما أنا هنا لأستمع اليك). تمثل هذه القصة في رأيي دائرة اجتماعية تبعث على الإعجاب والتقدير، كونها تفيد المجتمع الألماني عامة، كاشفة عن أريحية لدى هذا الكاتب وذكاء اجتماعياً واحترافية مهنية، فليس أفضل من الاستماع إلى الناس مباشرة لنسج كتابة درامية اجتماعية واقعية، وإثراء الفكر والثقافة الاجتماعية العامة تبعاً لذلك. تماماً كما كان يفعل تشارلز ديكنز صاحب رواية (الآمال الكبيرة) وروائي إنجلترا الأشهر حين كان يخرج ليلاً ليجوب حارات لندن مستمعاً ومشاهداً لما يدور فيها من مشاهد واقعية، نتج عنها روايات جعلته من أشهر روائيي العالم. ولعل في هذه القصة أيضاً إشارة إلى أنه مهما وصلت التقنية في المجتمعات المتقدمة وغير المتقدمة، فإنها لا تأخذ دور الإنسان الأساسي وعلاقات البش الاجتماعية. وهي كذلك مفيدة لزوار ذلك الكشك الاجتماعي، فإخراج ما بالصدر تنفيس له وجزء من علاج هم أو علة اجتماعية أو حزن مطبق وبالتالي فالمجتمع كله مستفيد. ذكرنا صاحب هذه المبادرة بمهنة الكتاب أمام المصالح الحكومية التي أخذت في التراجع لدينا، نظراً لاعتماد الخدمات الإلكترونية والرقمية وعلى أجهزة الجوال كذلك، ما يحسب لقطاعات الدولة هذه النقلة التي لا تتوفر في كثير من الدول. كانت تسمية الكاتب قديماً هي (عرض حالجي) لأنه يكتب للجمهور ويعرض حالهم ومطالبهم ومن هنا أتت التسمية، كفيتم شر الهموم وطابت أوقاتكم.