د.عبد الرحمن الحبيب
إقالة الرئيس الأمريكي لوزير خارجيته كانت متوقعة، ومن المتوقع أيضاً أن ينتج عنها إعادة توجيه للسياسة الخارجية الأمريكية بما يتلاءم مع توجهات ترامب وما أطلق عليه «صقور» الجمهوريين الجدد، مما سيكون له انعكاسات هامة وربما دراماتيكية على مجمل المشهد العالمي..
بداية سنحصل على قيادة وزارة خارجية تتحدث أيضاً باسم البيت الأبيض، وتضع حداً لازدواجية التصريحات والتوجهات بين الرئيس ووزير خارجيته التي شهدناها في ملفات كثيرة بداية في التعامل مع روسيا، ثم المحادثات الأمريكية مع كوريا الشمالية، والملف النووي الإيراني، إضافة لملفات عديدة: سوريا، قطر، اليمن.. وآخرها قضية محاولة تسميم العميل المزدوج في بريطانيا الذي تُتهم فيه روسيا.. فمن المتوقع أن تحدث تغييرات في كافة هذه الملفات لصالح مزيد من الوضوح في التعامل مع روسيا ومع ملف كوريا الشمالية والملف السوري، ومزيد من التشدد مع إيران..
إلا أن الأهم هو معرفة التوجه العام وليس التفصيلي لكل ملف لأن الملفات تتغير. التوجه العام كان مختلفاً بين ترامب وتيلرسون، فالأخير ينتمي للتوجه الكلاسيكي للجمهوريين رغم أنه رجل أعمال من خارج المؤسسات السياسية، لكن كان كل من وزير الدفاع السابق روبرت غيتس ووزيرة الخارجية السابقة كوندوليزا رايس قد أوصيا ترامب بالاستعانة به. أما ترامب فله توجه جديد مدعوماً من عناصر الصقور الجمهوريين الجدد يتقارب مع التقلبات العالمية الحادة التي نشهدها في المرحلة الراهنة.
الأجواء المشحونة التي يعيشها العالم تذكرنا بما يشبه ما قبل تأسيس هيئة الأمم المتحدة أو حتى ما قبل إنشاء «عصبة الأمم»، حيث الآن يضعف النظام العالمي الواحد لصالح نظام تنافسي حاد متعدد الأقطاب ومتفاوت المصالح ينذر بمخاطر يشبهها البعض بما كان عليه الوضع قبيل مؤتمر فيينا 1815 الذي أعاد رسم الخريطة السياسية لأوربا.. فالتنافس يسبق التعاون بين الحلفاء، والصراع يسبق التنسيق بين الخصوم..
إزاء هذه الأجواء العالمية وعلى ما يبدو تناغماً معها، يمكن ملاحظة الفكرة الأمريكية الجديدة التي طرحتها وثيقة «إستراتيجية الدفاع القومي» الأمريكي، التي نشر البنتاجون موجز لها قبل شهرين. أعلنت الوثيقة أن «المنافسة الإستراتيجية بين الدول الكبرى، وليس الإرهاب، هي الآن الشاغل الرئيسي في الأمن القومي للولايات المتحدة». هذا يعني أن الصين وروسيا هما الأولوية الأولى لمخططي الدفاع، وليس المنظمات الإرهابية أو الإرهابيين المنفردين في أمريكا.
وفي ذات السياق مضت وثيقة «إستراتيجية الأمن القومي» الأمريكية التي سبق مناقشتها هنا، فبدلاً من التأكيد على قيادة أمريكا لنظام عالمي بطريقة دبلوماسية كما كان يُطرح في الإستراتيجيات السابقة (إدارة بوش وأوباما)، فهي تطرح معها أيضاً وبالتوازي فكرة المنافسة الطبيعية بين الدول الكبرى بطريقة تشابه التفكير الدولي في القرن التاسع عشر المتعدد الأقطاب، تكون لأمريكا قيادة في أحدها وليس بالضرورة قيادة دبولماسية لنظام عالمي. وهنا تغدو الإستراتيجية الكامنة وراء الوثيقة كخطة قد يؤيّدها بكلّ سرورٍ فلاديمير بوتين الذي لطالما كان من المعجبين بنظام القرن التاسع عشر حسب فورين بولسي.
كلمة «المنافسة» أو ما يرتبط بها ظهرت 75 مرة في الوثيقة (بيتر فيفر)، وغالباً ما يشار إلى شركاء أمريكا كمنافسين أيضاً، أو لعدم قيامهم بما ينبغي عليهم فعله.. ذلك يضيف رؤية عالميةً مختلفة عن الإستراتيجيات الأمريكية السابقة، تعود للقرن التاسع عشر أكثر منها للقرن العشرين.. فعلى سبيل المثال، تؤكّد هذه الرؤية أن «المنافسة على القوة هي استمرارية أساسية في التاريخ. والفترة الزمنية الحالية ليست مختلفة». بينما الإستراتيجيات السابقة ركّزت على الدبلوماسية، بصفتها تنظّم وتدير نظاماً عالميّاً تعاونيّاً تحت مظلة هيئة الأمم المتحدة.
هذه الوثيقة تخالف بوضوح العناصر الصريحة من الإستراتيجية التي تقدّم بها الرئيسان الأمريكيان السابقان. فانتقاداً لإدارة بوش، تتعهد الوثيقة بأن أمريكا «لن تفرض قيمها على الآخرين»، مع التشديد على الإرادة الحرة والمصالح المشتركة بدلاً من ذلك. ثمّ تناهض أحد المواضيع الرئيسية التي تحدّث عنها الرئيس أوباما، وهي الحتمية العالمية للديمقراطية الليبرالية، بنص واضح: «ليس هناك تطوّرٍ تاريخي يضمن أن النظام السياسي والاقتصادي الحر لأمريكا سوف يسود تلقائيّاً». وهنا إشارة واضحة لم بدأت بعض الدراسات الغربية تطرحه من احتمال نهاية الديمقراطية التمثيلية لصالح الديمقراطية المباشرة أو حتى انتهاء الديمقراطية الغربية نفسها (لهذا مقال آخر).
هذه التوجهات قد تشير إلى أن المحور الأساسي للإستراتيجية الأمريكية الجديدة هو فكرة الصراع من أجل البقاء، والبقاء للأقوى، رغم أن في نصوص الوثيقة ما يدعم العولمة (النظام العالمي الواحد). وهنا يتساءل جيمس جيفري من معهد واشنطن، عمّا يوقف أمريكا وأعداءها من تخفيف حدة المخاطر المحتملة على بعضهما البعض من خلال تقاسم العالَم على غرار «مؤتمر فيينا» عام 1815 .
لفهم العلاقة الجديدة لأمريكا مع العالم علينا أن نجيب على سؤال أساسي: إلى أي حد ستحافظ أمريكا على النظام العالمي الواحد الذي تريد قيادته مقابل قبولها (وربما تأييدها) بالتنافسية على طريقة القرن التاسع عشر المتعدد الأقطاب؟ أظن أننا سنرى الإجابة مع وزارة الخارجية الأمريكية الجديدة، لكن لا أظن أن أحداً يمتلك الإجابة القطعية الآن.