عبد الرحمن بن محمد السدحان
أعيشُ الآن فترةً غالية من عمري المهنيّ، عبر منصبي الجديد، وقد يكون محطتيِّ الأخيرة قبل التقاعد، وتمَّ ذلك امتثالاً لما قضى به الأمر الملكي الكريم بتعييني مستشاراً بالديوان الملكي بمرتبة (وزير)، بعد أن أمضيت نحو اثنين وعشرين عاماً في الأمانة العامة لمجلس الوزراء الموقر، ولعلَّها أغْلى محطات حياتي! وجاء ذلك رمزاً لثقة كريمة تطوّق عنقي ما حييتُ فخْراً وشكْراً وعِرْفاناً لمولاي خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز ولسمو لي عهده القوي الأمين الأمير محمد بن سلمان أيدهما الله بعونه وتوفيقه.
* * *
* يحلُو لي أنْ أطلقَ على الفترة الحالية من مشواري المهني (استراحة محارب)، فهي عملياً أقلُّ من سابقتها تحدِّياً وأيسُر عناءاً. لكنّها في الوقت ذاته، فرصةٌ غالية لـ (استعادة) بعض الأنفاس الضائعة، إضافة إلى التجهيز لمرحلة أخرى من حياتي العملية، «للتأمُّلِ» منها نصيب وافر، عمَّا مضَى من عمري.. وما بقي منه، آملاً أن أستثمرَ هذه الفترةَ لترميم قدراتي الأدبية والمعرفية من جديد.. وتوْقاً لإنجازٍ جديد يمنحُ نفسـي نفحةً من عبير الفرح.. بما مضى وما هو آتٍ من حياتي، بإذن الله.!
* * *
* وقد استقر الرأيُ عندي أن أهمَّ ما في هذا السّياق الجديد ترسيخُ علاقتي بالكتاب والقلم قراءةً وكتابةً، عسَى أن أوُفَّقَ في تعويض نفسي بعضَ ما فقدتْهُ نتيجة انقطاع التواصل المستمر مع هذين المورديْن الهامين للمعرفة: (الكتاب والقلم) على مدى أكثر من عقديْن من الزمن!
* * *
* غنيُّ عن القول أن (الكتابة) عندي لعبت الدورَ الأول في مسرح حياتي الأدبية منذ أوائل نهاية الدراسة المتوسطة. ثم تلى ذلك انقطاعٌ عنها دام نحو سبعَ سنواتٍ، هي مدةُ الابتعاث للدراسة الجامعية في أمريكا حتى عودتي منها في أوائل السبعينات «ميلادي».
* * *
* أما القراءةُ المنتظمةُ فقد رافَقتني منذ أوائل المرحلة المتوسطة بمدينة الرياض. بعد الانتقال إليها من مدينة جدة. وكان التركيزُ فيها على أدب الرواية والتاريخ. وكان سيدي الوالد رحمه الله وأرضاه، مثلي الأعلى وقدوتي في هذا الصوب. وكانت مجلة (الهلال) المصرية (مائدتَه) المفضلة، بما تحويه من بحوث ومقالات في الفكر والأدب والثقافة إضافة إلى الكثير من شؤون الحياة والأحياء!
* * *
* ثم أدخلتْ حُمَّى المنافسة مجلةُ (العربي) الكويتية بقيادة رئيس تحريرها الأديب الدكتور أحمد زكي بما كانت تحويه من طرح مقَنَّن وأداء سديد، وكان سيدي الوالد من أوائل من استفاد منها منذ عددها الأول حتى أدركه الأجل رحمه الله.
* * *
* كلانا، والدي وأنا، كنا نعشق القراءة رغم اختلاف الذائقة الأدبية. كان رحمه الله يقرأ مثلاً لتوفيق الحكيم وأمين الريحاني ومُؤلفِين آخرين من مصر ولبنان لا تحضرني أسماؤُهم. وقد أسرتني في وقت لاحق على نحو خاص مخْرجات الأديب اللبناني الشهير أمين الريحاني الأدبية والتاريخية، خاصة أنه عاصر عهد المؤسس العظيم لهذا الكيان المبارك جلالة الملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، وكان من المعجبين به سيرةً وبطولةً وإنجازاً! كان يتنقل بين الطائف والرياض وشقراء أحياناً حين يكون الملك المؤسس طيب الله ثراه بها.
* * *
* وأتذكَّر في هذه المناسبة موقفاً رواه لي سيدي الوالد عن الأديب الريحاني، حين حلّ الأخير ضيفاً على منزل وجيه شقراء الكبير، العم عبدالرحمن السبيعي صديق سيدي الوالد وابن عمته، رحمهما الله، إذ تعرض الأديب الريحاني في إحدى زياراته إلى المملكة لنوبة شديدة من الحمّى اضطرّتْ مضيفيه إلى (عزله) في غرفة خاصة في إحدى جنبات المنزل.
* * *
* وذات يوم، سأل الريحاني سيدي الوالد عن وضعه الدراسي، فأخبره أنه لم يزل تلميذاً مبتدئاً، ثم عرض الريحاني اصطحابَه معه إلى بيروت بعد شفائه من المرض، ليتَعلّمَ هناك حتى يتجاوزَ الجامعة، فأجابه والدي شاكراً له ما عرضه عليه، وطلب إمهاله في الرد حتى يستأنس برأي والده (جدي الشيخ عبدالله السدحان) رحمه الله، الذي لم يبارك الفكرة جملةً وتفصيلاً، بحجة أنه لا داعي للغربة والدراسة في مجتمع مختلف عنا عادات وتقاليد، وانتهى الأمر برفض جدي لسفر والدي إلى لبنان. والخيرُ أبداً فيما اختاره الله ربُّ العالمين.