د.عبدالله مناع
في بادرة (قومية) عزَّ نظيرها هذه الأيام.. استضافت دولة (الكويت) فوق أراضيها بين الثاني عشر إلى الرابع عشر من شهر فبراير الماضي: (مؤتمراً دولياً) لـ (إعمار العراق) !! وهي التي تم احتلالها (عراقياً) في الثاني من شهر أغسطس من عام 1990 م - أيام الرئيس العراقي السابق صدام حسين - ولم يتم تحريرها من (جيشه) إلا في نهاية يناير من عام 1992م.. بقوات تحالف دولي قادته الولايات المتحدة الأمريكية أيام الرئيس (جورج بوش الأب).. ومع ذلك لم تحقد على (العراق)، ولم تتمن له أسوأ العواقب أو تتربص به الدوائر.. بل استضافت هذا (المؤتمر) الدولي لـ (إعماره) مؤكدة ما قاله الشاعر العربي القديم:
اذا احتربت يوماً وسالت دماؤها
تذكرت (القربى) فسال دمعها
(وقد ضم سبعين دولة وثلاثين منظمة دولية وخمس وعشرين منظمة عراقية، وخمس عشرة منظمة كويتية وأكثر من ألفي شخصية تمثل ألفاً وثمانمائة وخمسين شركة دولية.. ليبلغ إجمالي مساهمات هذا الحشد الدولي لـ (إعمار) العراق ثلاثين ملياراً من الدولارات.. كما ذكرت المصادر الكويتية في اليوم الأول من أيام المؤتمر، بينما ذكر وزير التخطيط العراقى «سليمان الجميلي» في ثاني أيام المؤتمر: إن «فاتورة» الإعمار.. هي (ثمانية وثمانين) ملياراً من الدولارات إلى جانب حاجة مليوني ونصف المليون نازح عراقي.. شتتهم الغزو الأمريكي في شهر مارس من عام 2003م في براري العراق والدول المجاورة له.. إلى منازل تأويهم، وتعويضات (نقدية) يبدؤون بها حياتهم من جديد، وهو ما يعني أن فاتورة (الإعمار) ستزيد حتماً عن الـ (88 ملياراً) من الدولارات..؟!
وقد اتضح من بيان المساهمات.. أن بريطانيا هي أكثر الدول إسهاماً في هذه الـ(88 ملياراً) بـ(عشرة) مليارات من الدولارات.. يليها البنك الدولي بـ(4.7 مليار دولار)، يليها دولة الإمارات بـ(6 مليارات دولار).. فـ(الكويت) بملياري دولار، فـ (المملكة) بـ (مليار ونصف) المليار دولار.. فـ(قطر) بمليار دولار.. فـ(ألمانيا) بـ(350 مليون دولار) فـ (اليابان) بـ(100 مليون دولار).. فـ(تركيا) التي قدمت (قروضاً) بخمسة مليارات ولم تقدم أي مساهمة أخرى.
أما (الولايات المتحدة الأمريكية).. صاحبة فكرة (الغزو) ومرتكبته.. خدمة لـ(مشروعها الإمبراطوري) في أن تكون (أقوى) قوة في العالم، وفي الطريق إليه.. تتم إزالة جيش صدام (المليوني)، الذي يهدد أمن «إسرائيل» نظرياً بـ(حجمه).. دون أن يقاتلها فعلياً إلا عندما احتل الجيش العراقي الكويت.. فكان أن تم قذف (تل أبيب) بعدد من صواريخ (الاسكود) بهدف (تحذيرها) من التدخل لصالح (الكويت) بـ(إيعاز) من الولايات المتحدة، التي لم تقدم أي مساهمة أو قروض لـ(تعمير) العراق.. كما فعلت (إسبانيا) ، التي أيدت الغزو الأمريكي لـ(العراق).. للقضاء على الرئيس صدام وأسلحة (الدمار الشامل) التي يملكها، وعجز كل المفتشين الأمميين عن العثور عليها.. لأنها -لسبب بسيط- لم تكن موجودة أصلاً إلا في خيال الرئيس بوش الابن الذى كان يتمتع بـ(طفولة) سياسية نادرة تجعله يقسم (العالم) إلى قسمين: قسم (الأخيار).. الذين يتبعون سياسات الولايات المتحدة الأمريكية ويؤيدونها، وقسم (الأشرار) الذين يعارضون الولايات المتحدة وسياساتها، وفي مقدمتهم الرئيس صدام، و(القذافي) والرئيس الكوبي، والرئيس الفنزويلي، والرئيس الكوري الشمالي.. وأحياناً يضع معهم الرئيس السوداني عمر البشير والرئيس اليمني علي عبدالله صالح..!؟
ورغم أن (مؤتمر الإعمار) هذا.. كان لخير العراق ولخير حاضره ومستقبله، وكان بحق تعبيراً صادقاً عن لحمة العروبة.. إلا أنه أثار بعض المرارات أو الكثير منها في نفوس العراقيين، الذين أخذوا يتذكرون تلك الأيام السوداء من شهر مارس من عام 2003م، والطيران الأمريكي يقصف (بغداد) عاصمة الرشيد على مدار ساعات الليل والنهار في مشاهد استعراض (تلفزيونية) أمريكية حقيرة لـ (القوة).. بينما العالم كله المعارض للحرب - باستثناء دولتي: بريطانيا بلير، وإسبانيا ايثنار - يتفرج دون أن يفعل شيئاً..كـ(سلاح الجو) العراقي الممنوع من الطيران.. والمحروم من قطع الغيار منذ سنوات.. حتى أصبح خردة على الأرض!! وإلى أن سقطت المقاومة العراقية بعد خمسة عشر يوماً من الفداء والبطولات.. ليدخل المشاة الأمريكيون إلى (بغداد) وشوارعها، وقد انقسموا إلى ثلاث فرق: فرقة.. تذهب إلى (وزارة البترول العراقية).. للاستيلاء عليها وعلى وثائقها وعقودها وكل موجوداتها، وفرقة تذهب إلى (المتحف العراقي).. لنهبه وترحيل كل موجوداته إلى خارج العراق، والفرقة الأمريكية الثالثة لتعيث في (بغداد) وما حولها: تقتيلاً للعراقيين.. وتدميراً لبنيتهم التحتية.. إلى أن قيل في وقت من الأوقات: إن العراق.. قد عاد.. بعد قدوم «الحرية» و(الديموقراطية) الأمريكيتين إلى ضفاف نهريه: (دجلة والفرات) إلى القرن الثامن عشر.. تخلفاً.
ومضت سنوات (جورج بوش الابن).. الثماني دون أن يثأر العراقيون لأنفسهم.. إلى أن جاء الرئيس جورج بوش الابن مودعاً بغداد.. في الرابع عشر من ديسمبر من عام 2008م، وقبل سبعة وثلاثين يوماً من مغادرته النهائية لـ (البيت الأبيض)، ليعقد مؤتمراً صحفياً يلقي خلاله كلمة وداع- لم يطلبها منه أحد - ليفاجأ بـ (فردتي) حذاء مراسل قناة البغدادية: منتظري الزايدي.. وهو يقذفهما تباعاً في وجه الرئيس جورج دبليو بوش الابن.. مصحوبتين على (الميكرفون) بكلمة: (كلب)..؟!
وقد ألقي عليه القبض بتهمة إهانة الرئيس.. وحُكم عليه بعدد من السنين.. أيام الرئيس (نوري المالكي).. أحسب أنه ملا يزال يمضى بقيتها في السجون العراقية، إلا أنه كتب - بما فعل - سطراً شجاعاً فريداً.. في كرامة الشعوب وحقها في الدفاع عن الحياة التي دمرها الغزو البربري الأمريكي..!!
على أية حال.. كان الغياب الأمريكي عن حضور مؤتمر الكويت الدولي لـ(إعمار العراق) يضع عشرات الأسئلة على ألسنة الدبلوماسيين والإعلاميين وأصحاب القنوات الفضائية، وهم يتساءلون عن أسبابه.. وعن دوافعه ومعناه ؟! وقد كان الكثيرون منهم يتوقعون حضوراً أمريكياً تعويضياً كثيفاً.. إلى جانب مساهمات أمريكية ضخمة، وقروض أضخم.. تُنَسِّي العراقيين سنوات الاحتلال الأمريكي وذله، وسجن (أبوغريب) وفضائحه.. بينما ذهب بعض أصحاب الرأي إلى ما هو أبعد من ذلك، إذ رأوا أن (منطق العدل) يقضي أن تتقاسم دول العدوان الثلاث - الولايات المتحدة وبريطانيا وإسبانيا - فاتورة إعمار العراق.. إزاء ما اقترفوه من جرائم ضد العراق وأرضه وشعبه، بينما يرى بعض الأمريكيين أن ما قامت به الولايات المتحدة الأمريكية في مارس من عام 2003م كان إنجازاً تاريخياً يستحق (الغنم) لا (الغرم).. إذ خلصت به العالم من (صدام) وشروره!! و(العراق) من ديكتاتوريته وجبروته.. وجاءته بـ (الحرية) والديموقراطية (والتعددية).. بينما يرى العراقيون أنفسهم أن ما حدث في شهر مارس من عام 2003م.. كان نكبة حقيقية لم يتخلص العراقيون منها إلى اليوم!!