3 - مدخل العاطفة: وهو مرتبط بكيف ننظر إلى العاطفة على أنها لغة، ونرتقي من خلالها باللغة من مستوى المجهول إلى مستوى المعروف، وإذا كان الخطاب مبنيا وفق نظام قيم ينتظم مجموع الدوال، فهو يحمل شكل بنية توترية structure tensive أي عاطفة تؤثر في الخطاب, لكن المنطق الذي يتحكم فيها هو منطق التحولات التوترية. والعواطف تمتد ضمن أفق توتري horizon tensif مثل الإعجاب والدهشة والهلع، قال إنه واسع، وغير محدد؛ لأن العواطف حين تشتد فإنها تصل إلى درجة تنفلت فيها عن أي تحديد.
ولقد رأى فونتنيي في كتابه «السيميائية والأدب» أنه لم يعد هناك مبرر للباحث أن يتجاهل البعد العاطفي للنصوص, شرط أن يعد هذا البعد متعلقا بالنص وليس بعواطف الشخصيات التي يفترض واقعيتها، ثم يشير إلى المنهجية فيقول سواء كنا من مناصري التحليل النفسي أو لسانيات التلفظ، فإن الأهم في هذا الطرح هو اعتبار العالم العاطفي لغة؛ لأن اعتبار العاطفة لغة يخضعه لنوع من العقلانية التي تبعدها عن المقابلة التقليدية بينها وبين العقل. وإذا كان لا بد للعاطفة أن تقابل بشيء ما في تحليل النصوص فالأجدر أن تقابل بالفعل لا بالعقل.
إن الاهتمام بالعواطف له تاريخ عند السيميائيين أنفسهم حيث سبق أن تطرّق لها غريماس وهرمان باري وآن إينو، ولقد أشاد بهم فونتنيي في كتابه السالف الذكر.
في قلب التلفظ إذن تشتغل اللغة لتعطي تصوّرها الخاص لكيفية اشتغال العواطف من خلال التركيبة المعجمية التي تتم بها إضاءة البنى الدلالية والنحوية المنشئة للآثار الشعورية effets affectifs التي تحمل مختلف التنويعات الثقافية.
وإذا كان التحليل النفسي قد نبه فونتنيي إلى الحالات الشعوريةétats affectives فإنه لا يمكن التعبير عنها إلا في شكل خطاب، هو الحامل الأساس للعواطف وخاصة الشفهي منه، فإن لسانيات التلفظ قد أعطت مكانة للعواطف من خلال التصييغ الشعوريmodalisation affective التي تمثل تجليات الحالات الروحية états d’ames, وسوف يكون بعد هذا التعرّف على الحالات الشعورية باعتماد إجراءات سيميائية الحدث المرتبط بحالات الأشياء والمؤثرة في الحالات النفسية للذات من أجل تحليل العواطف باعتبارها لغة داخل الخطاب.
ولذلك نراه وعلى غرار البرنامج السردي اقترح فونتنيي المخطط العاطفي الذي يجسد أهم المراحل المشكلة للعاطفة ويتمثّل في: اليقظة الشعوريةéveil affectif الاستعداد disposition المحور العاطفيpivot passionnel الانفعال émotion التهذيب .moralisation
يعرف فونتنيي العاطفة باعتبارها كفاءة من أجل الفعلcompétence pour faire ولكنها وحدها غير قادرة على تفسير الأثر العاطفي l’effet passionnel ؛ لأن الرغبة في الفعل لا تكفي وحدها لتحقيق البرنامج السردي للذات، فلا بد بالإضافة إلى ذلك توفر التوهج العاطفيl’excédent passionnel الذي يضمن الاستمرار رغم العراقيل التي تقف دون تحقيق ما تهدف إليه الذات. ومعنى ذلك أن النظام الصيغي للعاطفة مرتبط هو الآخر بتشكل تدريجي يمنح لها صفة التحول؛ ولذلك اشترط التقاء المعرفة والقدرة والرغبة كبنيات صيغية تشكل نظاما مولدا للمعنى العاطفي, الذي يرى أنه في النص كرائحة يصعب القبض عليها، لذلك يعترف في آخر كتابه أن اقتراحاته كلها هي مجرد تأملات وتفكير حول العواطف بهدف فهم الترابط المنطقي العجيب الذي يجمع بين الجسد والكون والقيم والبحث عن الأنا التائه عن الذات، غير أن هذه الطموحات كلها فرضها شيء واحد هو سؤال الدلالة في الخطاب الأدبي, وهو السؤال الذي كان وما يزال يدفع السيميائية إلى مراجعة مفاهيمها وآلياتها الإجرائية.
4-مدخل الدلالة: لقد مكنت سيميائية الأهواء من فتح النص على العالم الطبيعي لتتبيّن أن الدلالة تتمفصل في اتجاهين: الأول يتجلى من خلال عملية التمظهر التي تتجسّد في البرامج السردية والترسيمات العاملية. و الثاني وهو المولّد ويكون مسؤولا عن عملية التمظهر ويتمثل في المقصدية والإدراك والسياق الاجتماعي. ولقد نقل هذا الفهم للدلالة السيميائيات إلى جو أرحب حيث لم تعد محايثة النص هي المهمة؛ لأنها جعلت منه حقلا يمكن تجاوزه، بمعنى لم تعد الدلالة كامنة فيه فحسب، وإنما هي نتاج شروط قبلية هي التي تؤدي فيها التعابير المختلفة والممارسات البشرية الشفوية منها وغير الشفوية الدلالة.
ولعل مفاهيم ومصطلحات من قبيل: الشروط القبلية للدلالة، والأفق التوتري، والقيمة، والحقل التوتري، والتهذيب كلها تدل على هذا التوجه الذي نقل الاهتمام بالدلالة باعتبارها حصيلة تمفصلات تقع في ملفوظ منجز إلى الاهتمام بالعمليات التي تعمل على انبثاقها، ولذلك استلهم من فلسفة «شارل ساندرس بورس» منطق السيرورة السيميائي أو السيميوزيس sémiosis؛ فرأى في عنصر المؤولinterprétant النقطة التي تنطلق منها القصدية والإدراك العقلي والحسي معا؛ حيث يقوم المؤول الذي يشير إليه فونتنيي بvisée أو المستهدف بإرشادنا إلى الاتجاه الذي تنبثق منه الدلالة, أما الممثل الذي يشكل الركيزة بمفهوم بورس أو percue فهو يعمل على تجلية ما يفهم وهما عمليتان يقوم عليهما انبثاق الدلالة.
أما مساحة الخطاب فتتموقع بين مستوى التعبير الذي يقع فيه الفهم ويتسم بالامتداد ومستوى المضمون الذي يتم فيه الاستهداف ويتسم بالكثافة، أي أن مساحة الخطاب تقاس بما تخضع له من تبادلات تجسد عناصر العالم الطبيعي الأربع: الماء، التراب، الهواء، والنار، تكوّن كلها بنية توترية تشكل النار أقصى درجات شدة الأحاسيس وكثافتها، ويشكل الماء أقصى درجات الامتداد، أما التراب والهواء فيشكلان أدنى درجات شدة وامتداد الأحاسيس وعلى هذا الأساس صاغ المخططات التوترية الأربعة بين صعود ونزول وتضخم وخمود.
نلاحظ إذن، أن سيميائية الأهواء لم يكن المدخل إليها إلا من خلال الدلالة الذي يبقى الموضوع الأثير وتكون العاطفة الأداة الإجرائية والموضوع الذي تتحقق به الدلالة، فتصبح الأولوية لبناء الهوية الصيغية -الرغبة والقدرة والمعرفة-، وملاحظة شدتها ومداها الزمني, لنتعرف من خلالها عن كيفية انبثاق الآثار العاطفية التي تكوّن الشروط القبلية للدلالة.
وسوف يتم التنبّه حينها إلى أسئلة لم تكن من اهتمامات سيميائية الحدث وهي علاقة العاطفة بالجانب القيمي والأخلاقي، حيث انتهى تصورهم إلى افتراض مخطط مسار العواطف في الخطاب هو المخطط العاطفي القاعدي, الذي يبدأ بنوع من التيقظ العاطفي éveil affectif وينتهي إلى الحكم التقييمي أو التهذيبي moralisation حيث يمكّننا من إصدار حكم على منطق العاطفة الذي تتشكّل استنادا إلى الثقافة والمجتمع وهي منعرج اللقاء بين الدلالة والخارج الذي كان العنصر المستبعد في سيميائية الحدث.
إن الخلوص إلى أهمية البعد الأخلاقي الذي هو بعد ثقافي في الأساس، سيعيد النظر في أمر منطق الدلالة ذاتها التي لا يمكن أن تحصر في تركيبة جملية أو معجمية، وإن المدخل المعجمي الذي كان «جاك فونتنيي» قد ارتآه في البداية ضروريا للبدء في تحليل العاطفة في الخطاب، سيسمح له بإدراك تغيّر دلالة الكلمات في المعجم، ومن ثم إدراك نوع من السنن الواجب وضعه بعين الاعتبار في التعرّف على المنطق الهوّي للعاطفة داخل الخطاب، وهي شفرات codes يسعى من خلالها إلى القبض على العاطفة باعتبارها لغة عوض معاينتها أثرا دلاليا ينتج عن اللغة.
إن هذه الإلماحة للمداخل الأساسية لسيميائية الأهواء جاءت تالية للهاجس الذي طرحناه في بداية المداخلة والمتعلق بمدى مساهمتنا في صنع الفعل الثقافي العالم. ولا شك أن هذه المداخل سوف تمنحنا الفرصة لاستيعاب البعد الأخلاقي والثقافي الذي ينطوي عليه سعي أصحابه في تحليل منطق الدلالة في الخطابات من خلال معاينة الأسباب القبلية لتشكله وهو منطق العاطفة. ولقد تكرس من خلال معجم العواطف الذي يتأسس على دعوة ضمنية مفادها أن المعنى مرتبط بإحساس منتجيه وإحساسهم يشكله منطق الثقافة التي ينتمون إليها، وأن أي اشتغال خارج الثقافة التي ينتمي إليها الإنسان هو نوع من الاستلاب الفكري.
د. آمنة بلعلي - جامعة مولود معمري تيزي وزو – الجزائر
للتواصل مع (باحثون)
bahithoun@gmail.com