د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
ويرى الدكتور زكريا أنَّ سمات التعصب هذه تنطبق على كل شكل من أشكاله، فالتعصب العنصري والتعصب القومي المتطرف والتعصب الديني، كل أولئك يشاركون في سمات واحدة: وهي الانحياز إلى موقف الجماعة التي يُنتمى إليها دون اختيار، ودون تفكير، والاستعلاء على الآخرين، والاعتقاد أنهم أحط، وإغلاق أبواب العقل ونوافذه إغلاقا محكما حتى لا تنفذ إليه نسمة من الحرية يمكن أن تهدد الموقف الذي يُتعصب له، بل تهدد المتعصب نفسه بقدر ما وحد نفسه مع ما يتعصب له.
ويكشف المؤلف عن الخطر العظيم الذي يواجهه العلم من التعصب، إذ يسهم في جعل الحقيقة ذاتية ومتعددة ومتناقضة، وهو ما يتعارض مع كلية الحقيقة العلمية وطبيعتها، فكل متعصب يؤمن بحقيقته هو، وهو يؤكد بلا مناقشة خطأ الآخرين، وحين تنتقل إلى هؤلاء الآخرين تجدهم يؤكدون هذا الشيء نفسه عن حقيقتهم الخاصة، ويؤكدون خطأ الأول، وهكذا تضيع الحقيقة في هذا التشتت والتناقض، ولو كان العقل هو الحكم بين الناس لما تعدَّدت حقائقهم وتناقضت، ولعل المؤلف هنا يقصد الاختلاف فيما يجوز فيه الاختلاف وتحكيم العقل، أما ما يتصل بأساسيات الدين وأركانه فلا مجال للحديث عنه هنا.
ومما يثير عجب زكريا أنه مع وضوح هذه الفكرة إلا أنَّ الإنسانية عاشت على ما تعتقد أنه حقائق ذاتية تتعصب لها بلا تفكير فترةً أطول بكثير مما عاشت على حقائق موضوعية تتناقش فيها بالحجة والبرهان، بل إنَّ عدد أولئك الذين يقتنعون بآراء ومواقف يتعصبون لها دون نقد أو اختيار في عالمنا المعاصر يفوق بكثير أولئك الذين لا يقبلون الرأي إلا بعد اختباره بالعقل، ومن هنا فإنَّ معركة إقرار مبدأ التسامح في الفكر والعقيدة مستمرة، ومع أنَّ التسامح قد تغلَّب على التعصب منذ أن أحرز العلم انتصاراته في العصر الحديث، إلا أنه لا تزال هذه الصفة المقيتة كامنةً في النفوس، حتى في تلك البيئات التي يبدو فيها أنها قد اقتلعت من جذورها، إذ تكفي أي هزة قومية أو اجتماعية عنيفة لإيقاظها من سباتها، وتجديد قوتها الطاغية، وهذا دليل على أنَّ معركة العقل ضد التعصب لم تنته بعد، ودليل على أن الإنسانية ما زالت في حاجة إلى قرابين كثيرة قبل استئصال آفة التعصب من النفوس.
وتشتد خطورة التعصب -في رأي المؤلف- إذا أدركنا أنه عقبة متعددة الأطراف تقضي قضاء تاما على كل إمكان للتفكير العلمي إذا تُرك لها المجال للانتشار والسيطرة، فهو ينطوي على خضوع تام لسلطة المبدأ الذي نتعصب له، وكل متعصب ينظر إلى طريقة تفكيره الخاص -بل طريقة تفكير الجماعة التي ينتمي إليها- على أنها سلطة لا تقبل المناقشة، كما ينطوي التعصب على تفكير أسطوري؛ إذ إن الموضوع الذي نتحيز له في حالة التعصب يتحول إلى أسطورة، فيختفي طابعه الحقيقي، ويحل محله طابع وهمي مختلق. فضلا عن أنَّ المتعصب يتمسك برأيه بطريقة خلت من كل منطق، وهو بطبيعته يشجع التفكير اللاعقلي؛ لأنه هو الدعامة الوحيدة لموقفه.
ويختتم صاحب التفكير العلمي هذه المعالجة بالقول إنَّ التعصب عقبة مركَّبة تعترض طريق التفكير العلمي، ومن هنا كانت المعركة التي ينبغي أن يشنها عليه هذا التفكير حاسمة؛ إذ إنَّ العقل البشري لا يستطيع أن يجد حلاً وسطاً بين الاثنين، فإما العلم وإما التعصب، ولا بد من القضاء على أحدهما لكي يبقى الآخر.
ولعلي أختم هنا بالإشارة إلى التقصير الواضح في مؤسساتنا التعليمية تجاه معالجة مثل هذه العقبات التي تعترض طريق التفكير العلمي الصحيح، وتقف سدا منيعا أمام كل محاولة لإعمال العقل وحل المشكلات وتحقيق الغايات من الحوار الهادف وتبادل الآراء، وليت مؤسساتنا تعزز في النشء مثل هذه الطرق في التفكير، وتحذرهم من خطورة معوقاته، وما هذا التعصب الذي نراه في حياتنا الاجتماعية وحواراتنا الثقافية إلا أكبر دليل على هذا التقصير الذي يهدد مستقبل وطننا على المدى البعيد.