محمد عبد الرزاق القشعمي
استمتعت بسياحة بانورامية للحياة الاجتماعية بمنطقة عزيزة من بلادنا الغالية في فترة ما قبل النهضة الحديثة أو على الأصح ما قبل فترة ما يسمى (الطفرة) ومع تطورات الحياة ووفرة الخدمات وكثرة الإمكانات وسهولة التوصل والتواصل، أقصد منطقة الجوف وبالتحديد قاعدتها مدينة (سكاكا) التي ولد وعاش بها مؤلف هذا الكتاب الذي سأحكي لكم عنه بإيجاز وبكلام مبتسر ولكنها وقفات سريعة لا تغني عن قراءته وهو (سنوات الجوف.. ذكريات جيل) لمعالي الدكتور عبدالواحد بن خالد الحميد.
بعد أن قرأت ما كتبه الدكتور عبدالرحمن الشبيلي (عبدالواحد الحميد يستعيد سنوات الجوف) وأنا متشوق لقراءته، ولم يلبث مؤلفه كثير وقت إلا وبعثه لي بمجرد مهاتفة سريعة.. بعد شكره على هديته القيمة وجدت أن الجوف وقد أطلق عليها (وادي النفاخ) كناية عن مبالغتهم في إكرام ضيوفهم حتى ينتفخ بطنه من الشبع، أما سكاكا فقد سميت لمكانها الجغرافي حيث تلتقي فيها (سكك) القوافل التجارية بين جزيرة العرب وبلاد الشام والعراق، المؤلف يحكي قصته بل قصة جيله ويصف المدينة بحاراتها وناسها بعاداتهم وتقاليدهم، فقد تحدث عن حارته (الشعيب) ومزرعة العائلة في (اللقايط) ولا ينسى بقية الحارات. يذكر الراعي عند إحضاره الغنم عند غروب الشمس - وكنا في بلدتنا نسميه (الشاوي) - وكيف يستقبلها وهو طفل مع أترابه، فكل منهم يعرف أغنامه أو هي على الأصح تعرفهم فتتجه إلى حيث أصحابها.
يذكر أن المدينة تفتقر إلى كثير من متطلبات الحياة الحديثة كتمديدات المياه والكهرباء والهاتف. وأن النساء كن يجلبن الماء في (قدور) على رؤوسهن من أحواض المزارع للبيوت، أو بواسطة (سقا). ثم يذكر (السني) بالبهائم، وهو استخراج الماء من الآبار، وذكر الحمير والبقر، ولم يذكر الجمال فهي الأقوى والأقدر كما وصف وسمى آلات وأماكن السني، قال إن اسم الممشي الذي تسلكه السانية عند إخراج الماء هو (المجر) وفي بلدتنا - الزلفي - نسميه (المنحاة) وذكر الرشاء وهو الذي يربط بالغرب (الدلو) من الأعلى، ولم يذكر السريح الذي يربط الغرب من الأسفل والذي يسير على (الدراجة) بينما الرشاء يسير على (المحالة) في أعلا المقام.
ثم بدأت ثورة التحديث بجلب (المواطير) التي سهلت خروج الماء من البئر واستبدلوا به عن الحيوانات. مما وسع وطور الزراعة ونوع المحاصيل، وعن اصطياد العصافير وهو من أمتع هوايات الأطفال اليافعين أمثاله سواء بـ(النبيلة) التي نسميها (المفقاس) أو (النبيطة) التي نسميها (النباطة)، وكان (الفخ) المفقاس ينصب على أحواض الماء ليأتي الطير ليشرب منه فيقع على طرف عود يحيط به خيط دقيق فبمجرد ما يقع الطير عليه يسقط العود ويحيط الخيط بإحدى قدميه فيعلق ويبدأ بالوصوصة حتى يأتي صاحب النبيلة (المفقاس) ليخلصه ويذبحه. وكنا نسمي أحواض الماء في المزارع (اللزاء) أو (البركة) وهي التي تقع في أحد أطراف المزرعة قرب الطريق العام التي دائماً يكون إلى جوارها المسجد، لتشرب منه الحيوانات أو ليتوضأ منه الجميع . يصف المجالس العربية (القهوة) التي يجتمع بها الجيران بعد الصلاة. وغالباً صلاة الظهر - ويبدأ بإعداد القهوة ويصف (الوجار) وطريقة إعداد القهوة من تحميصها وتبريدها ودقها بالنجر، ثم غليها بإبريق التول أو (القمقوم) والتي نسميها في بلدتنا (اللقمة) ثم زلها في دلة المبهرة. ولكل شيء تقاليده وأصوله من شبة النار حتى صب القهوة بالفناجين له أصوله وتقديمه أولاً لكبار السن أو الضيف وهكذا.. والحديث الذي يدور بين الرجال لا يخلو من حديث خاص عن النساء أو القوة الجنسية أو الضعف عند أحدهم فيتحرجون من الاسترسال حتى لا يسمعهم صغار السن، فينبهون بعضهم بقولهم (ترى السماء مغيمة) أو (يتنحنح) فيقلب الكلام إلى موسم التمر أو الفاكهة وغيرها.
ثم يتحسر على هذا الزمن الجميل، إذ بعد دخوله المدرسة الشمالية (فلسطين حالياً) التي فوجئ بقسوة الأساتذة على الطلاب فنجده يقول: «.. من سرق طفولتنا، كانت الدراسة إجمالاً بمثابة أعمال شاقة بسبب الأسلوب التعليمي والتربوي العقيم الذي كان متبعاً في تلك الأيام..» ولكنه سريعاً ما يتلمس لبعضهم العذر وبالذات المدرسين القادمين من فلسطين بعد ضياع بلدهم وما تبع ذلك من تشرد.. ويذكرني هذا بما قاله الأمير خالد الفيصل من قبل (من سرق الابتسامة من وجوهنا) مع تغلغل ما يسمى بالصحوة في مجتمعنا.
لا ينسى مناسبة استقلال الجزائر ونكبة فلسطين وتأثيرها على أبناء الجوف بحكم الموقع الجغرافي إذ كان المدرسون يشحنون الطلبة بالمشاعر القومية. فهو يذكر مناسبة استقلال الجزائر والتي انطلقت بسببها المهرجانات الاحتفالية، وتسيير المظاهرات الجماهيرية التي تجوب الشوارع بمباركة وتنظيم من أجهزة الدولة. وهذا يذكرني بما سبق أن قرأته في صحيفة (صوت الحجاز) عام 1355هـ/ 1936م عند احتدام الصراع بين الفلسطينيين والصهانية ودعوة عز الدين القسام للإضراب الشامل الذي استمر ما يقرب من ستة أشهر. وتفاعل الشعوب العربية معها، ووصفها للمظاهرات التي ساند بها أبناء المملكة القضية وبالذات مدن الحجاز من مكة إلى المدينة ولم يذكر من المناطق الأخرى التي شاركت بالمظاهرات سوى سكاكا. الذي وصف المظاهرة بتفاصيلها وهتافاتها.
استفاد من مكتبة والده واهتمامه بالصحافة كونه مراسل جريدة الجزيرة بالجوف فبدأ يقرأ ويستعيد من مكتبة المدرسة المتواضعة ولكنه اكتشف المكتبة التي أسسها الأمير عبدالرحمن السديري (مكتبة الثقافة العامة بالجوف) فبدأ يستفيد من مقتنياتها، وهو بالتالي لا ينسى أن يذكر ويشيد بأفضل مدرس بالمتوسطة الثانية وهو محمد إبراهيم والذي كان يدرسهم في المدرسة الشمالية الابتدائية سابقاً والذي كاد يبكي وهو يروي لهم بطولة مقاومة الفدائيين للجيش الإسرائيلي في معركة (الكرامة) والتي كبدوا بها العدو العديد من القتلى والجرحى، وإلى جانب هذا المدرس المحبوب يخشون المدرس العراقي مشكور العباسي.
ويشير إلى أن بعض الأهالي لا يتحرج من إدخال ابنته للدراسة في مدارس الأبناء قبل افتتاح مدارس للبنات. فيذكر أن شقيقته الكبرى منيرة وزميلتها فاطمة ابنة الجيران عندما يريد الأستاذ معاقبة إحداهن يطلب من الأخرى صفع المخطئة «.. لأنه يتحرج من ضربهما بنفسه لكونهما (بنات) ولم تكن هناك معلمات بالمدرسة ..».
هناك كثير مما يستوجب الإشارة إليه ولكن المساحة ضيقه فلعلي أكتفي ببعض الوقفات السريعة، مثل بعض المسميات التي قد تختلف من منطقة إلى أخرى كمثل (المنفة) وهي لدينا باسم (المهفة) المروحة اليدوية التي تعمل من خوص النخل. وخبز (المقشوش) أو (المصلي) الذي تصنعه النساء على الصاج، ويسمى لدينا بـ(القرصان) الذي يقرص على (المقرصة).
أول بلدة يزورها خارج سكاكا هي عرعر التي اكتشف بها وجود الكهرباء وسيارات التاكسي والمستشفى وسماها باسم (أم الدنيا) وهذا يذكرني بما سبق أن سمعته من الأديب السوداني الطيب صالح وهو يشارك بندوة في معرض الكتاب بالقاهرة قبل نحو خمس عشرة سنة إذ قال إننا متفقون على أن مصر هي أم الدنيا ولكن ليس كل مصري يمشي بالشارع هو أبونا.
وعند مرافقة والده في إحدى سفراته للرياض ليكشف على عيونه الطبيب وينصحه باستعمال نظارة سمى الرياض (بأم الدنيا وأبوها) بدأ يشعر بالخجل بسبب الأكل بالمطاعم التي لم يعتدها بل هي مستنكرة في الجوف، ولكنه وجد شيئاً جديداً وهو الأكل بصحن لوحده وله توابع السلطة والمرق. وهذا شيء جديد إذ تعود بالمنزل على صحن كبير يجتمع حوله الجميع.
يقول إنه بدأ يكتشف ذاته، «.. ففي المرحلة المتوسطة عرف أنها مرحلة انتقالية مهمة.. إذ اكتشف ميوله وتوجهاته ومواهبه ويتمتع بشيء من الاستقلالية، والمرحلة الثانوية هي مفصل أساسي تتبلور من خلاله ملامح المستقبل المهني والوظيفي وحتى الحياتي للإنسان...».
فقد اكتشف دروساً جديدة في الثانوية كاللغة الفرنسية والجبر والكيمياء واستفاد من العطلة الصيفية بالقراءة الحرة ونجد أن طه حسين قد أخذ نصيبه الأوفى منه، وبدأ اهتمامه الأدبي والصحفي يتشكل فأخذ مع زملائه يتنافسون بذكر فضائل الأدبي على العلمي بالتخصص الدراسي.
اختار القسم الأدبي وجاءت نتيجة الامتحان الثانوي عام 90 /1391هـ وقد احتل المركز الثاني على مستوى المملكة فاختار جامعة الملك عبدالعزيز بجدة.
وبحكم خبرته الصحفية السابقة في الندوة والجزيرة التي نشر بها أول قصة (صدى) ثم موضوع (الجوف وحاجتها لمصنع تمور) عام 1388هـ وبعض المقابلات الصحفية، وأسس مكتبة منزلية سماها (فرقدان) وصنع لها ختماً بهذا الاسم يمهر به كتبه ويرقمها حتى لا تضيع.
استمر اهتمامه بالصحافة وتعمق بمعرفة بعض الصحفيين بجدة فأصبح محرراً بمجلة (اقرأ) ثم مراسلاً لها عندما كان يدرس الدراسات العليا بأمريكا، حتى أصبح بعد عودته وعمله بجامعة البترول والمعادن نائباً لرئيس تحرير جريدة (اليوم) ثم رئيساً لتحرير مجلة (الاقتصاد)، فأصبح يكتب في كثير من الصحف.
أختم بما قاله الدكتور الشبيلي عنه: «هو جوفي النشأة، وطني الانتماء، عروبي المشاعر، مجتمعي الهواجس، مسكون بحس التوطين، والثقافة تجري في عروقه من خلال متابعاته وقراءاته.. ».
أشكر الدكتور الحميد على هذا العمل الجميل وننتظر منه الجزء الثاني من هذه السيرة الاجتماعية بدءاً من دراسته الجامعية بجده فالدكتوراه بأمريكا فمراحل عمله بالتدريس والمهام الحكومية الأخرى التي تسنمها.