قرأت رواية (مجنون ليلى اليهودية) لصاحبها الأستاذ الأديب الروائي والناقد والشاعر السعودي /حمد حميد الرشيدي كي أعمل على مادتها بقصد تحويلها لعمل سينمائي أو درامي، هذه الرواية الصادرة سنة 2016م عن مؤسسة الانتشار العربي ببيروت، والتي جاءت في حوالي 502 صفحة من الحجم المتوسط.
ساورني انطباع - للوهلة الأولى - حين رأيت كبر حجمها بأنني سريعاً ما سأتركها أو أنصرف عن قراءتها أو الاطلاع عليها, هذا فضلاً عن ندرة الاصدارات الأدبية الخليجية التي تصلنا في بلاد المغرب الأقصى، كآخر نقطة في غرب الوطن العربي الكبير، الأمر الذي جعل فهمي لمسار الكتابة في هذه الرقعة من الخليج العربي مشوشا ومبهما، بل جاهلا لما يحدث على الساحة الأدبية هناك.. لأن المد الثقافي المصري واللبناني والسوري في زمن ما، كان قد أغلق علينا كثيرا من النوافذ التي نطل من خلالها على المؤلفات والإبداعات الخليجية من أدب وفن وشعر. كما أن كثافة ورق الرواية (502صفحة) قد شكل عندي أيضا نوعا من التردد حول فكرة قراءتها, نظرا لضيق الوقت، ولانشغالي بظروف عملية أخرى.
لقد خلت الكاتب.. وهو فهم خاطئ مسبق عندي اعتذرت عنه آنفا، بأنه سيسرف ويطنب في الوصف والشرح مما سيسقط عن القارئ المتسرع مثلي متعة القراءة. هذا إذا علمنا أن الوسائل التكنولوجية في وقتنا الحالي وفضاءات الانترنت ساهمت بدورها في العزوف عن القراءة، وسلبت منا حب التعامل مع الكتاب وتلك المتعة والألفة التي سبق أن نسجناها سالفاً مع المؤلفات الورقية، بالإضافة إلى أننا صرنا اليوم (أمة لا تقرأ).
لكن...ما أن بدأت في تصفح الرواية حتى وجدتني أسير في هذه الرحلة الجميلة. وأنا أتنقل بين صفحاتها دون كلل أو ملل. شدتني الرواية، وسحرتني بأسلوبها السلس، وإيقاعها المتواصل، ولغتها البسيطة التي لا تجد فيها تكلفاً، ولا تصنعا لإيصال المطلوب. بل بسرعة وجيزة نسجت ألفة حميمية مع الأحداث والأشخاص والشخوص والأمكنة، بل خلت نفسي من شدة الاندماج واحداً، أو طرفاً رئيساً في أحداثها بحكم أنني أنتمي إلى هذا الوطن العربي الكبير، وأحمل نفس الهم وأعيش عين القضية.
فعندما تغوص في ثنايا هذه الرواية تدرك أنك لست أمام قاص أو روائي عادي. وإنما تقتنع تماماً, وتعي أنك تواجه شخصا متمكنا من أدواته التعبيرية، ورجلا مثقفا غير عادي.
حمد حميد الرشيدي، رجل واسع الأفق، غزير الثقافة، يمتلك أدوات الصنعة في الكتابة والتأليف وسرد الأحداث. فهو لم يكتف هنا بأن يقدم لنا رواية وفق النسق المتعارف عليه في الكتابة في هذا الشق من الأدب، بل تراه في بعض الأحيان يجنح عن الطريق، ويتمرد على القواعد، فيحملك معه عبر جملة من التداعيات المتكررة التي ستكتشفها وأنت تقرأ روايته، حيث تدفعك مرغما إلى مراجعة مخزونك المعرفي، وثقافتك، لما يقدمه لك من غزارة في المعلومات في الأدب والشعر والفكر والأمثال الشعبية والتاريخ والعلوم، ويجب أن نعرج على كلمة التاريخ هنا: فالمقصود هنا هو (التاريخ العربي) الذي يحكي عن أمجادنا وماضينا المجيد المشرق الذي صارت معالمه تضيع منا يوما بعد يوم، في ظل المدنية الغاشمة، والسياسات المتكالبة على الأمة العربية لتغييب حضارتها، وطمس معالمها, وربما تقتل في المواطن العربي ما تبقى من عروبته ونخوته، وذلك بزرع النزاعات القبلية والنعرات الاقليمية والطائفية والشعوبية.
ولعل الحوار الذي دار بين بطل الرواية (شاكر) الشاب السعودي الذي ذهب ليهيئ (رسالة الماجستير) في (مصر)، حين سأل سائقه الخاص المصري «مهران» عما يعرفه عن وطنه العربي الكبير, وثقافته وتاريخه، لكنه صُدِمَ حين علم أن «مهران» لا يعرف شيئا في هذا الموضوع...!.أي لا يعرف الشيء الكثير عن تاريخه كمواطن عربي.
ويستمر الكاتب ببعث مجموعة من الرسائل في روايته بشكل ضمني تارة وصريح تارة أخرى، حيث يدعونا للعودة لقراءة تاريخنا من جديد وإخراجه من رفوف النسيان وإبرازه، والمفاخرة والاعتزاز به، على اعتبار أن: (من لا تاريخ له لا وجود له).
وفي مقابل ذلك نجد الكاتب يسوق لنا بطريقة تقابلية وفي خط متوازٍ مع التاريخ العربي، تاريخ اليهود وكيف أنهم ومنذ زمن بعيد تغلغلوا في نسيج بعض بلداننا العربية كأقليات واقتسموا معنا عروبتنا وتاريخنا وثقافتنا. ونبه إلى الفكر الصهيوني الذي هو مخالف للديانة اليهودية, وكيف تحركت أجهزة الصهاينة الاستخباراتية لتسخير عناصر من هذه الأقليات اليهودية المتغلغلة في بعض بلداننا العربية لخدمة سياساتهم التوسعية والعنصرية الهادفة إلى تدمير كياننا العربي كما هو مسطر في كتابهم المشؤوم «بروتوكولات حكماء صهيون» والتي أثارتني جملة من هذا الكتاب, مضمونها (بالمال والنساء الجميلات نسيطر على العالم) ، وفراستهم هنا صدقت و تحققت في بعض جوانبها.
وعند هذه النقطة تتقاطع رواية مجنون ليلى اليهودية مع هذا الموضوع, الذي نبه لمثل هذا الفكر المتطرف الخبيث حين جعل من بطلة الرواية «ليلى شالوم اليهودية» محور هذا العمل, وشكل خط الصراع في الرواية ككل. لأن هذه الفنانة اليهودية الفائقة الجمال سلبت لب الشاب اليمني (إبراهيم) العاشق الولهان المنحدر من بلد متجذر في التاريخ. بلد محافظ مفاخر ومفتخر بثقافته، وتراثه، وعروبته, ليتأجج الصراع العرقي بين الثقافتين: الثقافة العربية الأصيلة المحافظة، والثقافة اليهودية المشوهة التي لبست ثوب الصهيونية. وهكذا.. يكبر الصراع وتتداخل فيه مجموعة من الأطراف فيحلق بنا لكاتب بعيدا وينبهنا بأن هذا الصراع سيبقى مستمرا لأن الفكر الصهيوني هو فكر ممنهج، مسنود من الخلف بأجهزة استخباراتية وقنوات إعلامية تعي ماذا تفعل، في حين نحن كمجتمعات عربية في غفلة عما يحاك ضدنا. غارقين في خلافاتنا.
وفي النهاية يقدم لنا الكاتب خلاصة تفكيرنا وإلى أين ساقتنا الأوهام منبها في نهاية الرواية إلى (الربيع المشؤوم) الذي وسع الهوة بين الحاكم والمحكوم، ودفع إلى تفتيت وحدتنا، موضحا أنه ليس ربيعا عربيا كما نتصور ،حمل معه ريح الحرية والانعتاق, ولكنه عاصفة ممنهجة لتدمير معاقل وحدتنا.
أعلم بأنني في هذه المقالة المقتضبة لم أوف الرواية حقها من الشرح والتحليل. فالمؤلف بفتح اللام، يحرضني لقراءة ثانية واعية متأنية، وأنا على يقين بأنني سأكتشف أشياء أخرى جديدة حول هذا العمل الجميل الرائع مما يفتح أمامي آفاقا جديدة حول امكانية تحويله الى عمل سينمائي مستقبلا!.
فتحية للكاتب المبدع الأستاذ حمد الرشيدي.
نجيب الأسد - كاتب وسيناريست ومخرج سينمائي من المغرب