أعرف بلند الحيدري من خلال قراءتي للشعر الحر كواحد من أعمدة شعراء الحداثة العرب وبعدها كنتُ أقرأ له في مجلة المجلة عبر مقالاته الأسبوعية ولكنه لم يُعرف كاتباً بقدر معرفة الناس به شاعراً، وعلى ذلك فهو شاعر لم يأخذ نصيبه من الشهرة والمكانة التي أخذها أقرانه الآخرون كالسياب ونازك الملائكة والبياتي وغيرهم وخصوصاً أنه نازعهم ريادة وأولوية شعر الحداثة أو قصيدة التفعيلة أو الحر كما يُسمّى، عندما صعد أصحابه إلى القمة وعلقوا في أذهان الناس وهو صاحب الأفضلية تنازل مرغماً عن أولويته فسقط من ذاكرة العادّين تلقائياً .
وبلند شاعر من الطبقة الأرستقراطية العراقية آنذاك ولكن سيرته لا تخلو من العجب والغرابة وحياته مليئة بالأحداث الدرامية لذلك ترجمتْ قصائده تلك الرحلة الطويلة من حياة التشرّد الإرادي بين الشوارع والحانات وعبر النهر والجسر، إلا أننا نستطيع أن نجد أهم شيء في حياته ألا وهي الغربة التي أخذت عنده معنى آخر حتى في عقر داره حين تنازع الأخوين الإثرة والمحبة لدى والديه فكان حظه من ذلك أصفاراً، ثم كانت غربته الأخرى والمنفى الاختياري في ديار الفرنجة حين أصبحت الوطنية عاراً! وليته عاش حتى يرى البون الشاسع بين عراق الأمس واليوم .
من خفقة الطين حتى شوارع لندن تاريخ طويل من النهوض والتحليق وما قبل ذلك فراغ وفوضى من حياة أشبه باليأس والسقوط! في ذاك الوقت حين كان يعبث بالقراءة في بداياته كانت بغداد الملكية في الثلاثينات تزخر بروح المتنبي وأبي تمام وبعنفوان الرصافي والجواهري كانت بوابة الشعر والمجد والتاريخ وما بين دجلة والفرات تراث مُزجت ثقافته بطينة الآشوريين والبابليين والعرب والكرد! إنها خلطة لا يجيد التعامل معها سوى العراقيين فقط .
ديوان (خفقة الطين) الذي رسم لبلند خطة الشعر الحر فأوغل في طريقها حتى النهاية! كانت محاولة ناجحة في البدايات وهي أشبه باستباحيات نزار قباني ومغامراته العاطفية وفيها من خطرات النفس الأثيمة ما تعوّد الحداثيون عليها دائماً:
نزت الآثام في عمري
فثوري
وارقصي نشوى على قلبي الكسير
مضغ الحزن شبابي
يافعاً
فامضغي بالشهوة القصوى مصيري
لست أهوى جنة الله ... ولا
ولا أتمناها رجاء في شعوري
لا... ولا أخشى سعيراً
وصدى سخرية الحزن المرير .
كان مطلعها بداية الغربلة والاستقرار الأدبي نحو تيار جديد لم يُعرف من قبل في سماء الشعر العربي! فلا قافية ولا مصراعان ولا وزن يكون معياراً للمشاعر التي تخرج من أعماق القلب، بل هو نمط بنسق جديد يسمّى (الشعر الحر) .
وفي غربته اللندنية لم ينس أيامه الجميله التي تعصف بذاكرته كلما هزها لتسقط له رُطباً جنياً وكأنها أعذاق بغداد التي ارتوت من ماء دجلة يقول في (وها أنتِ):
وَهاَ .. أنتِ
بالأمس إذ كُنا صِغار
كم كانت الدنيا صغيره
مازلتُ اذكرُ كل هاتيك السنين
تلك الدُروب المعتمات
ضحك السكارى العائدين مع الحياة
بلا حياه
لون المساء
كالداء يزحف في أزقتنا الضريره
مازلتُ اذكر كل هاتيك السنين
تلك الوجوه المستديره
تموت خلف كوى صغيره
عمياءَ
من قش وطين
ما اصغر الدُنيا بحارتنا الفقيره
هل تذكرين ... ؟
هكذا من بلاد الكرد إلى بغداد حتى لندن عاش ومات بلند الحيدري شاعر الحداثة والوطن!
- زياد السبيت