أحسن الكاتب والصحفي الأمريكي جيمس رستن حين وصف المتورطين في محاكم التفتيش الإسبانية بعبارة جاءت في عنوان كتابه وهي: «كلاب الرب»، وهو وسم دقيق لطبيعة ما كان يجري في تلك المحاكمات؛ فالكلاب الحانقة تزداد ضراوة حين تنشط في جماعة، فتصول معًا بشدة وكأنها على قلب «كلب واحد». والكَلَب داء فيروسي يصيب الكلاب في أدمغتها، ويمكن انتقاله للإنسان وسائر الحيوان بسهولة كبيرة، ولأنه يستهدف الدماغ، فمن المؤكد أنه ينقل المصاب به من وضع الاتزان إلى حالة من الاعتلال العميق تجعل ردات فعله عصية على التوقع.
هذا السعار الديني يمكن إسقاطه بارتياح بالغ على محاكم التفتيش الإسبانية؛ فليس لدي ارتياب في أنها كانت حالة مرضية تعدت طور الرقابة والعقوبة، لتصل لحد الاستمراء واللذة، وهو ما أشرنا إليه في المقال السابق من هذه السلسلة، عطفًا على استطالة الممارسة والتفنن في إلحاق الأذية. قد يتبادر إلى الذهن أن الغاية من ذلك حمل المسلمين على اعتناق المسيحية والردة عن الإسلام، ما جعل من صنوف العذاب والتنكيل، بنفسها الطويل جدًا، ضرورة لإدراك الهدف. والحق أن محاكم التفتيش-في سبيل الوصول لمرادها بتنصير الموريسكيين-لم تكن مضطرة لكل تلك الشناعة، ولا أحسب أن الموريسكي المغلوب على أمره حينها، رجلًا أو امرأة، كان يحتاج لأكثر من تلويح بالعذاب لإعلان التنازل عن دينه-على الأقل ظاهريًا- لينجو بنفسه وعرضه، وقد صنع ذلك كثير منهم فاستبقوا حياتهم واحتفظوا بعقيدتهم خفية، وصدرت لهم فتاوى دينية تجيز فعل التقية، ليعيشوا نصارى في الظاهر ومسلمين في الباطن. لا أختزل القضية الموريسكية في الواقع، بل أرقبها من زاوية أحسبها جديرة بالعناية.
إن السادية التي اجتاحت محاكم التفتيش الإسبانية أليمة جدًا من جهة تبنيها من مؤسسة رسمية دولية، لا من قبل عصابة إجرامية مشردة، وأفظع من كل ذلك ربطها بالدين الذي هو رسالة إنسانية قبل أي شيء آخر. لكن السؤال الملح في هذا السياق: هل الممارسات القمعية المتعلقة بالدين شائعة في كل الأديان؟ وهل السادية التي ارتبطت بمؤسسة مسيحية رسمية حكم عام على الدين الذي تنتمي إليه؟ إن تاريخ الأديان حافل بصور من الوحشية المتناهية أبطالها أفراد ومؤسسات، وليس لجوهر الدين علاقة بها من قريب أو بعيد. وإذا قلبنا صفحات التاريخ الإسلامي مثلًا وجدنا ما يشبه محاكم التفتيش المسيحية بشكل أو بآخر؛ فالخليفة العباسي المهدي، والد هارون الرشيد، دشن مرحلة تاريخية مثيرة تعقب فيها الزنادقة في حينه، وانتهج طريق القمع محاولًا تجفيف منابع الإلحاد والهرطقة في المجتمع العباسي، وأنشأ لذلك ديوانًا خاصا، وهو صاحب المقولة الشهيرة «ما وجدت كتاب زندقة قطّ إلا وأصله ابن المقفع»، وقد اشتدت وطأته عليهم خشية على المجتمع الإسلامي من طقوسهم الغريبة، كنكاح المحارم وشركة النساء وغير ذلك، ولم يسلم من سيفه كبار أعلام الشعراء في زمنه كبشار بن برد وصالح بن عبد القدوس.
إنها صورة من صور «محاكم التفتيش الإسلامي»، يضاف إليها أخرى، ضحاياها من المتصوفة والفلاسفة. لكن بالرغم من ذلك، يظل الأمر هينًا إذا ما قورن بمحاكم التفتيش الإسبانية؛ فالسادية التي اتصفت بها أفرزتها عن غيرها من التجارب وسلخت عنها إيهاب الإنسانية تمامًا، وأوصلت الإنسان لمرحلة من التدني البشري لا يمكن تصنيفها. إنه ليعز على الفكر تخيل مؤسسة رسمية دولية تتبنى ذلك وتباركه، لتكون على رأس القائمة السوداء في تاريخ الصدامات البشرية متقدمة على كل الجماعات المارقة قديمًا وحديثًا؛ تلك التي تدعي أنها على هدي من الله، تستمرئ به قطع الرؤوس، وتهشيم العظام، وتحريق الأجساد، وفعل كل ما يحمل على الأسى من استحالة الدين لعلة مزمنة عند المتطرفين والمتزمتين أيًا كانوا؟
- صالح عيظة الزهراني