يجري الصراع في عالمنا المعاصر بين عولمتين؛ عولمة «الويلات المتحدة» التي تريد الهيمنة الأحادية ونهب خيرات كل الشعوب بما في ذلك الشعب الأمريكي، وعولمة الصين-روسيا اللاقطبية التي تريد مصلحة جميع الشعوب. ومن الواضح أن القوّة هي الأساس لكلتا العولمتين. الأولى من أجل الهيمنة، وبالتالي لا تتحقق إلا بالحروب. أما الثانية فقوتها للردع فقط، وبالتالي تتحقق من دون حروب!
لا يخفى على أحد أن الحروب ليست بالسلاح وحسب، حيث توجد الحرب الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والإعلامية ...الخ، ولكن كل أنواع الحروب تبتدئ وتنتهي بالوعي! ... أصحاب المليارات لا يقاتلون بأنفسهم لأنهم أجبن من أن يفعلوا ذلك، إنما يشترون من يقاتل عنهم حتى لو كان جيشاً نظامياً؛ ولكن شراء إنسان يمتلك الحد الأدنى من الوعي ليقاتل نيابة عن رأسمالي ليس بالأمر السهل، بل يكاد يكون مستحيلاً حتى بوجود الفاقة والعوز. إذن لا بد من استهداف الوعي، بل تخريب الوعي من أجل إشعال الحروب! ... ولكن كيف؟
أول وسيلة لتخريب الوعي هي الكذب، فحجب الحقيقة أول طريق الوقوع بالخطأ، ولكن حبل الكذب قصير. كما أن الكذاب قد يكون هو نفسه فريسة الكذب، كما فعل «العبقري جحا»، حيث في طريقه إلى بيته قابل صاحبه فقرر أن يكذب ليتفادى دعوة صديقه للطعام فقال له: يقال أن هناك وليمة في بيت القاضي! فهرع ذلك الرجل إلى بيت القاضي وأخبر كل من يصادفه بالطريق، وعندما انتشر الخبر كالنار في الهشيم، وقبل أن يصل «جحا» إلى بيته بقليل، صادف صاحباً آخر، فبادر ذلك الرجل وقال لجحا: توجد وليمة في بيت القاضي! .. فكر جحا قليلا كيف انتشرت الكذبة، ثم تساءل في قراره: ربما توجد وليمة فعلاً! وطفق عائداً إلى بيت القاضي!
«الويلات المتحدة» أعلنت سابقاً سياسة اكذب اكذب حتى تصدق! ولكن لم تعلن ماذا ستفعل إذا اكتشف الوعي أنه لا توجد وليمة في بيت القاضي؟ إذن لا بد من «زراعة الوهم» واستمراره! ... كيف ذلك؟ ... ماذا لو ادعى جحا أن هناك ولائم عدة... واحدة في بيت القاضي والثانية في بيت نائبه والثالثة في بيت رئيس الوزراء والرابعة ..والخامسة .. والسادسة ...الخ، سيذهب كل فرد إلى أقرب وليمة، وعندما لا يجد شيئاً سيلوم نفسه أنه لم يلحق! ثم يهرع إلى الوليمة التالية! وسوف لن يلحق على أي منها! .. وبإمكان جحا أن يدعي أن الولائم ستكون كل يوم في بيت واحد من هؤلاء ولن تتوقف أبداً! ... فبهذه الطريقة سيهرع الناس كل يوم ولن يتوقفوا حتى بعد وفاة جحا!
وليمة بيت القاضي لدى «الويلات المتحدة» هي «الديمقراطية»، وهي ليست في بيت القاضي وحسب، إنما في بيوت كل القضاة في النظام الرأسمالي، وأكبر هذه الولائم هي في بيت القاضي الأمريكي! كما أن وليمة وهمية واحدة لا تكفي حتى لو تعددت البيوت، فهناك وليمة «حقوق الإنسان» بالرغم من أنها مكتوبة في ورقة ما في أروقة ما يسمى «الأمم المتحدة» التي تمتلك «قضاة» لكل جياع العالم! ... وتتوالى ولائم الوهم، كالمجتمع الدولي والليبرالية الجديدة والأعراف الدولية والراديكالية والوسطية .. وما إلى ذلك من أوهام غذائية!
لا ألوم جياع العالم اللاهثين وراء وهم الطعام، ولكنني أتضور جوعاً «لنخبة» لا تصدق أكاذيبها، وتكشف للجياع أن «برمجة الوهم» أشد فتكاً من مرارة الحقيقة.
- د. عادل العلي