محمد بن حمد المالك
ثمة مواقف كبرى في هذه الحياة تستحضر معها وفي لحظات، سنوات طوال من العمر، تعود بك إلى براءة الطفولة وتعيد لك ذكرياتها مع من يشاركك هذا الموقف الكبير، فيأخذك خيالك معه وأنتما تخطوان من مرحلة الطفولة إلى الشباب لتخوضا تجارب الرجولة وتدلفان إلى حيث الشيخوخة وكأنكما تستجمعان قواكما للملمة بقية مواقف العمر جميلها وصعبها. هذه اللحظات الحالمة لا تكون إلاَّ في موقف كبير ولإنسان قدره كبير وله مكانة خاصة جداً، عشت معه وبقربه وبتأثيره سنوات العمر كلها.
وبالأمس الحزين، فقدت صاحب هذه المكانة في موقف عصيب تداعت إثره كل ذكريات الماضي قريبها والبعيد، حزينها والسعيد، فقدت شقيقي وحبيبي وشيخي وقرة عيني الشيخ منصور بن حمد المالك ومع عظم المصيبة تصاغرت أمام ناظري الدنيا رغم اتساعها وكأنما الضياء فيها مصباح أطفئ ليعم ظلام الحزن، كيف لا!! وهو الذي سبقني إلى الدنيا ليسعد بقدومي إليها ويختصر لي تجارب الطفولة فأتلقاها منه صافية نقية، يلاعبني لأفرح ويدافع عني لأطمئن، يعلمني ويناصحني لنمضي سوياً في مراحل الحياة أخوين حبيبين وصديقين. رأيت معها ومنه معاني بر الوالدين، وحنان الأخوة ولطافة التعامل مع أسرته والعطف الأبوي واحترام الأقارب والأصدقاء والسمع والطاعة بالمعروف لولاة الأمر، وبذر صلة الرحم في نفوس الأبناء وسقايتها وحسن رعايتها حتى أصبحت أسرة المالك مضرباً للمثل في التواصل والتعاون. تعلمت منه الكفاح يدفعه الطموح ويسوقهما الأمل نحو غدٍ مشرق فلم يكل ولم يمل في طلب العلم وتحصيله من مكان لآخر ومن شيخ إلى أكبر يزاحم بركبه أقرانه بكل نهم للجديد في العلم. وتعلمت منه أن مناصب الدنيا مهما علت كراسيها مؤقتة لا تدوم وأن العاقل من يستثمر وجوده فيها ليقدم لآخرته من دنياه ويحقق النفع العام يحذر المصلحة الخاصة، فما رأيت مثله نزاهة وترفعاً عن بهارج الدنيا وإغراء المنصب.
ظل سعيداً راضياً بمسكنه القديم الذي يقطنه من عشرات السنين رافضاً أن يستبدله رغم إلحاح إخوته بتقديم أجمل المساكن هدية له معللاً رفضه وهو يشكرهم بأنه يتطلع إلى الانتقال منه إلى قصر في الجنة لا إلى حجارة أخرى في الدنيا.
كان في منصبه وهو يتعامل مع الناس في مظالمهم قاضياً في ديوان المظالم ثم نائباً للرئيس ثم رئيساً للديوان يتحرى العدل جهده وإن أضناه ذلك وطاله اللوم ممن يحرص الناس على كسب ودهم فكان حازماً في رد المظالم لأهلها ناصحاً للظالم ليحميه من فعل نفسه حظي كغيره من العلماء والوجهاء بمجالسة الملوك الذين يفتحون مجالسهم للناصحين والمواطنين وكان من أقربهم مجلساً فلم يزده ذلك إلا تواضعاً ولم يدفعه إلا ليكون شافعاً في حاجات الناس عفاً في حاجة نفسه ناصحاً صادقاً.
تعود منذ كان يافعاً على التواصل الحسن مع الناس وظل على هذا الخلق الحميد رغم ما أحدثه العمر من ضعف في جسده ووهن في قوته وثقل على كاهله فيندر أن يدعى إلى مناسبة فرح فلا يجيبها أو يسمع بعزاء معرفة فلا يشارك في العزاء حتى إنك تتعجب من بركة وقته وعلو همته حين ينتقل من مناسبة إلى أخريات بصورة لا يطيقها حتى الشباب يدفعه إلى ذلك السعي إلى الثواب ومشاركة الناس للواجب الأدبي مردداً أين أذهب من قول النبي صلى الله عليه وسلم: «وإذا دعاك فأجبه».
وكنت رفيقه وتلميذه وصاحبه في كل المواقف ثم تركني في سَحَر الاثنين الحزين، وكأن الله اختار لرحيله ساعة التنزل الإلهي في الثلث الآخر من الليل حين يتنزَّل جلَّ في علاه قائلاً: «هل من سائل فأعطيه هل من مستغفر فأغفر له هل من تائب فأتوب عليه».
لتنطلق ألسنة محبيه داعية الله عزّ وجلّ أن يتغمده بواسع رحمته وعظيم عفوه ومغفرته تاركاً خلفه سيرة عطرة يندر قرينها ومحبة من الناس يصعب مثيلها ودليل ذلك الجموع الغفيرة التي شيعته وقدمت العزاء فيه وهم يرددون لمن العزاء لكم أو لنا جميعاً ولا غرابة أن يتقدم المعزين فيه قادة هذه البلاد المباركة وعلى رأسهم خادم الحرمين الشريفين -حفظه الله- وولي عهده الأمين ولا غرابة أن يحضر إلى منزلنا كبار أصحاب السمو الملكي وعلى رأسهم صاحب السمو الملكي الأمير أحمد بن عبدالعزيز الذي تجشم أعباء السفر من مكة المكرمة ليشارك في العزاء والكثير غيرهم وجمع لا يحصى من الناس من بينهم سماحة مفتي عام المملكة وأعضاء هيئة كبار العلماء وآخرين من علماء المملكة وعدد كبير من مسؤولي الدولة وموظفيها والسفراء.
تركنا ومضى ليعلمنا أن رحيل الكبار يكون بأجسادهم لتبقى آثارهم الحسنة نوراً يحتذى به.
رحمه الله رحمة واسعة وجزاه عني وعن أسرة المالك وعن محبيه خير الجزاء.
{إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ }