من حميد الغرائز وكريم الشيم وفاضل الأخلاق في الرجل الناجح الوفاء في قوله وعمله كشيخي العالم الزاهد المتوفى شيخ العقلاء والمتعقلين الشيخ منصور المالك رئيس ديوان المظالم بالأصالة والنيابة رحمه الله وجمعه بنبيه وصحابته وصالح أمته في جنته.
إن الوفاء لمن أقوى الدلائل وأوضح البراهين على طيب أصل هذا الرجل وشرف عنصره، يتفاضل هذا الوفاء بالتفاضل اللازم للمخلوقين وفي ذلك يقول الشاعر:
أفعال كل امرئ تنبي بعنصره
والعين تغنيك عن أن تطلب الأثرا
والثاني يقول:
وهل ترى قط دِفلى انبتت عنبا
أو تذخر النحل في أوكارها الصبرا
والوفاء أن يفي الإنسان لمن يفي له، وهذا فرض لازم وحق واجب على الابن كأنا لوالده وشيخه كالشيخ منصور رحمه الله وغفر له ما تقدم وما تأخر، لا يحول عن ذلك إلا خبيث المحتد الأصل فلا خلاق له ولا خير عنده، ولولا أن مقالتي هذه لم أقصد بها الكلام في الأخلاق التي يتصف بها هذا الشيخ الجليل وصفاته المطبوعة والمتطبع بها، وما يزيد من المطبوع بالتطبع وما يضمحل من التطبع بعدم الطبع، لزدت في هذا المكان ما يجب أن يوضع في مثله، ولكني إنما قصدت التكلم فيما رغبته من أمر هذا العالم فقط، وهذا أمركان يطول جداً إذ الكلام في معاليه رحمه الله يتفنن أي يتنوع كثيراً.
ومن أرفع ما شاهدته من وفاء هذا الرجل في هذا المعنى، وأهوله شأنا رأيته فيه عياناً وهو أني أعرف من رضي بقطيعة من له حق عليه وأعز الناس عليه، ومن كان الموت عنده أحلى من هجر ساعة في جنب ملازمته لمن كان له حق عليه، والتزم لولي أمره الملك سلمان وقت إمارته للرياض وبعده ولشيخه الإمام محمد بن إبراهيم رحمه الله، حيث قطع على نفسه يميناً مغلظة ألا يفارق مجلس الملك سلمان في بيته وقت إمارته وأن لا يترك الترحم على شيخه حتى في صلاته وبعد أن فرقت الأيام بينهما.
وفي شيخنا خصلة ندرة في غيره وهي الوفاء لمن غدر، وهذه فيه دون غيره لا ضعفاً وإنما ترفعا ويكل أمره إلى الله، وهذه خطة لا يطيقها إلا جلد قوي واسع الصدر، حر النفس، عظيم الحلم، جليل الصبر، حصيف العقل، ماجد الخلق سالم النية، ومن قابل الغدر بمثله فليس بمستاهل للملامة، ولكن الحال التي ذكرتها تفوقها جداً، وتفوتها بعدا، وغاية الوفاء في هذه الحال ترك مكافأة الأذى بمثله، والكف عن سيئ المعارضة بالفعل والقول، والتأني في جرحبل الصداقة ما أمكن ورُجيت الألفة، وطمع في الرجعة، ولاحت للعودة أدنى مخيلة وشيمت منها أقل بارقة، أو توجس منها أيسر علامة. قال لي رحمه الله كلمة تكتب على طريق الملك فهد بلافتة مضيئة: إذا وقع خلاف بينك وبين شخص ووقع اليأس واستحكم الغيظ فحينئذ السلامة لمن غرك والأمن لمن ضرك والنجاة لمن آذاك، وأن يكون ذكر ما سلف مانعاً من شفاء الغيظ فيما وقع، فرعي الأذمة حق وكيد على أهل العقول، والحنين إلى ما مضى وألا ينسى ما قد فرغ منه وفنيت مدته، وهذا من أثبت الدلائل على صحة دين هذا الرجل ووفائه، وهذه الصفة الحسنة جداً لا تعدم في شيخنا رحمه الله، وواجب استعمالها في كل وجه من وجوه علاقات الناس فيما بينهم على أي حال كانت.
ولعهدي بشيخي وهو من صفوة مشايخي قد علق حبي له لعظمته وتقديره فتأكد الود بيننا، لم أغدر بحبه وعهده ولم أنقض وده حتى شاع تقديري له عند الناس فوجدت لذلك وجداً شديداً.
أهديت له نسخة من كتابي (طوق القضاء. وأخلاق القضاة. فاتصل علي وقال. ما أجمل هذا الكتاب وحاجة القضاة إليه، فالنزاهة وحسن الخلق أشبه بطوق الحمامة وهو اللون الدائري على رقبتها والذي لا ينفك عنها إلا بموتها وشكرني ودعا لي بدعاء يعقوب لابنه يوسف.
كان رحمه الله ومن شدة وفائه أنه لا يتأخر عن جلسة الملك فهد وجلسة الملك عبدالله والمعروفة بجلسة المشايخ وكان على يسار الملك وأحياناً على يمينه ثاني اثنين. لا يتكلم إلا حين يستنطق كان الملك سلمان يحبه ويقربه إليه. وكان رحمه الله يترحم كثيراً على الملوك والمشايخ. حضرت الصلاة عليه وكانت جنازته مهيبة أشبه بصلاة العيد أو بيوم عرفة كلهم ترحم على الشيخ ودعا له وهم شهود الله في أرضه. اللهم اغفر له وافسح له في قبره واجعله روضة من رياض الجنة.
وأرى والرأي لولي الأمر أن يطلق اسمه على معلم بارز تقديراً له وتعظيماً ليكون سبباً في تذكير محبيه بالدعاء له والترحم عليه وأترك الاختيار لهذا المعلم لمن بيده الأمر.
لحب ابن عبدالله أولى فإنه
به يبدأ الذكر الجميل وينتهي
** **
د.عبدالرحمن بن محمد الغزي - رئيس محكمة استئناف - رئيس محاكم جازان - عضو مجلس القضاء الأعلى - والأعلى للقضاء سابقاً