د. محمد بن إبراهيم الملحم
سأوضح هنا كيف أن هذه المدارس هي مكوِّن مهم من مكونات التنمية الاقتصادية الوطنية، وسألقي الضوء على النموذج الأمريكي لهذه المدارس مركزًا على المتخصصة في العلوم والرياضيات (التي شاع مؤخرًا تسميتها مدارس ستيم STEM). ففي الولايات المتحدة الأمريكية هناك أنماط عدة لها؛ فهي إما مدارس عادية، أو مدارس داخلية: أي يتوافر بها سكن لإقامة الطلاب؛ والسبب أن قلة عددها مع حاجة من هم في مناطق بعيدة إليها ألجأت إلى توفير السكن الداخلي؛ ليحصلوا على فرصة الدراسة بهذه المدارس؛ فالقبول فيها مقصور على من يجتاز اختبارًا، يُصنَّف من فئة الطلاب ذوي القدرات العقلية العالية (أو الموهوبين علميًّا)، ومع وجود مدارس تتيح الدخول للجميع، لكن القبول المبني على الاختبار هو السائد. كما أنها توجد أيضًا في إطارين: أولهما الإطار المستقل دون علاقة مع جهة معينة. وهنا فإن المدرسة لها مبانيها المستقلة وسكنها الداخلي المستقل بكل احتياجاتها من مختبرات ومكتبة وورش وصالات رياضية وقاعة مطعم.. إلخ. وأغلب المدارس المتخصصة من هذا النوع. أما الإطار الثاني فهو أن تكون ضمن جامعة، تتبنى المدرسة، وتشرف عليها، بل تمنحها مختبراتها ومكتبتها وما إلى ذلك من الموارد التي تقدِّم لهؤلاء الطلاب المبدعين بيئة خصبة وقوية للإبداع والتفكير والتحصيل العالي.. بل في بعضها يدرس الطلاب المقررات الجامعية الأولية (101 مثلاً) مع طلاب الجامعة. كما أنه في كثير من هذه المدارس التي يكون البحث العلمي من مناهجها الدراسية يمارس الطلاب البحث العلمي ضمن بعض أبحاث الجامعة المناسبة لهم؛ فيطلعون عن كثب على نكهة العلم في سياقه التجريبي أو النظري؛ الأمر الذي يرتقي بذائقتهم العلمية ووعيهم الفكري، ويجعلهم في جو العلماء منذ وقت مبكر، وهو عامل يؤدي إلى «تسريع التعلم» Acceleration of Learning لديهم.
لا شك أن هذه المدارس مكلفة ماديًّا، لكنها متاحة عبر القطاع الخاص (المدارس الأهلية) لمن لديهم القدرة المالية كأسلوب تعليمي، ترغب الدولة في إتاحته لتجني من خلاله «رأس المال البشري المتقدم» الذي يشغل معامل الأبحاث ومنصات الاختراع وشركات الإنتاج العالمية.. بل فوق ذلك فقد أُنشئت مدارس حكومية من هذا النوع منذ الثمانينيات، لكن مؤخرًا أولتها الحكومة الأمريكية اهتمامًا أكبر؛ فتوجد خمس عشرة ولاية في أمريكا أنشأت مدارس داخلية حكومية متخصصة تابعة للولاية (أي أنها تدعم ميزانيتها). وتقول البروفيسور جوليا روبرتس Julia L. Roberts: إن إنشاء الحكومة للمدارس المتخصصة له ثلاثة أسباب: الأول توفير أماكن مناسبة للطلاب المتفوقين؛ كي يشبعوا من خلالها نهمهم العلمي حيث مصادر المعرفة وأدواتها التي لا تتوافر في المدرسة العادية. والثاني هو أن المدارس المتخصصة ستوفر الكادر القيادي لمنصات الإنتاج النوعي القائم على العلوم والتكنولوجيا؛ الأمر الذي يحافظ على استقرار الاقتصاد المعرفي للبلاد في مستواه المرتفع، أو يطوره باستمرار. وفي هذا الصدد يقول المجلس الوطني الأمريكي للعلوم: «إن ازدهار وطننا على المدى الطويل سيزيد اعتماده على الأفراد الموهوبين الذين يتم تشجيعهم؛ ليكونوا طليعة نتاج التعليم القائم على العلوم والتكنولوجيا (ستيم STEM)، والموجه للطلاب ذوي القدرات العالية». أما السبب الثالث والمهم فهو رغبة تلك الولايات في منع «هجرة العقول» التي لوحظت مؤخرًا؛ الأمر الذي يمثل خسارة «لاقتصاد» كل ولاية أن يرحل منها المبدعون والمتفوقون إلى أمكنة أخرى؛ لذلك حرصت على العناية بهم منذ دراستهم الثانوية؛ لتجعل ذلك وسيلة بقائهم في وطنهم، وإفادته بخبراتهم.
لقد سقت هذه الاستشهادات لكم لنتعلم سوية كيف ارتقت هذه الدول المتقدمة علميًّا وتقنيًّا واقتصاديًّا وعسكريًّا، بل أيضًا كيف هي تحافظ اليوم على ما حصلت عليه من تقدم بتوفير محاضن خاصة، تخرِّج أجيالاً متميزة، تقود مؤسساتها. ومن هنا قدمت لهذه المقالة بأن المدارس المتخصصة هي مكون مهم من مكونات الاقتصاد الوطني وتنميته أو النهوض به.
أخيرًا، وللمتشككين في هذا النموذج المتميز، فإن هناك دراسات عدة استهدفت المدارس المتخصصة في أمريكا، إحداها نُشرت عام 2014، وأثـنت عليها لكونها توفر بيئة أكاديمية واجتماعية، تحفز الطالب لاستكشاف المجال العلمي بشكل أفضل. ودراسة أخرى عام 2014 أيضًا، استهدفت بحث ما إذا كانت هذه المدارس - بوصفها مدارس داخلية - يمكن أن تؤثر سلبًا على نمو الطالب النفسي والاجتماعي، ووجدت أن ذلك غير صحيح، وأنه لا توجد آثار سلبية. كما أن دراسة ثالثة من الدراسات الطولية (تجرى عبر سنوات عدة)، نُشرت عام 2010، توصلت إلى أن خريجي المدارس الثانوية المتخصصة تزيد احتمالية نجاحهم في تخصصات علمية في دراستهم الجامعية وحصولهم على درجة البكالوريوس فيها أكثر من الضعف مقارنة بأولئك الذين درسوا في مدارس ثانوية عادية (50 % مقابل 23 %).