عبدالعزيز السماري
قد أستطيع فهم مسألة أن يستولي أحدهم على فقرات من كتاب أو أفكار أو أبيات شعر من مؤلفها، لكن أن تتم سرقة حضارة كاملة، فذلك أمر يستحق التوقف عنده كثيراً، تستطيع أخي القارئ أن تلاحظ ذلك من خلال قراءة مقدمة أي كتاب عن التوثيق العلمي في الطب أو الفلسفة أو الفلك أو الرياضيات أو الفيزياء أو غيرها من العلوم، وستدرك كيف يتجاوز المؤلف الغربي ستة قرون من الإنجازات للعرب والمسلمين عندما ينسبها إلى غيرهم حين ينتقل مباشرة من اليونان إلى عصر النهضة الأوربية، وبدون المرور على رموز الحضارة العربية وإنجازاتهم..
في نوفمبر 2016، صدر كتاب للمؤلف داج نيكولاس هاس من جامعة هارفارد بعنوان النجاح والقمع.. العلوم العربية والفلسفة في عصر النهضة، وتحدث عن خلفية القمع التي واجهته الحضارة العربية بعد سقوطها بعد عمليات محاكم التفتيش والتطهير العرقي من قبل الإسبان ضد الحضارة العربية في الأندلس، وما تلاها من ظهور لمعارضة علنية لإبراز التأثيرات العربية في الثقافة الغربية من قبل السلطات الإسبانية والكنائس.
فقد أسس الباحثون الإسبان المتطرفون جداراً من القطيعة ضد التأثير العربي، وذلك بإعادة مصادر العلم إلى المصادر اليونانية واللاتينية، وطالبوا بتطهير المناهج الجامعية من ذكر التأثير العربي، وتم استبدال المرجعية العلمية الأهم للعلوم من العربية إلى اليونانية، كانت ونتيجة لذلك أن اختفى المؤلفون والفلاسفة وعلماء العرب والمسلمين من الذكر في العديد من المناهج الجامعية في الطب وغيرها من العلوم في أوائل القرن السادس عشر ليعودوا فقط جزئياً على الأقل في نهاية القرن...
على الرغم من الحصار والقمع للتأثير العلمي العربي، نجح الفيلسوف والمفكر والفقيه ابن رشد الحفيد في اختراقه، وأدى ذلك إلى انقسام عميق بين مفكرين من عصر النهضة الأوربية، ويعتقد العديد من أساتذة الجامعات أن ابن رشد المعلم الأول والحقيقي في الفلسفة والفكر الإنساني، و أصدر أسقف بادوفا ومجلس كنيسة القديس لاتيران إدانات لفكره، و يمكن تتبع الأثر في السير الذاتية الفكرية لبعض أنصاره، وواصل ابن رشد التأثير والإعجاب حتى نهاية القرن السادس عشر ميلادي.
المدهش في الأمر أن هذه المنهج القمعي والإقصائي امتدت تأثيراته إلى هذا العصر، فنادراً ما يشير المؤلف إلى منجزات العرب العلمية في مجال ما عندما يتناول تاريخ العلم في تخصص محدد، وأصبح هذه المنهج أسلوباً ومنهجاً متعارفاً عليه، وهو يعني أن حالة الإخفاء والقمع ضد التأثير العربي لم تتوقف بانتهاء حكم الكنيسة في أوروبا، ولكن أيضاً تبنتها المجمعات العلمية بعد ذلك، بل تحولت إلى أشبه بالمسلمات في العقل الغربي، وكأن العرب في جنوب المتوسط من كوكب آخر.
كان من مظاهر القمع للتأثير العربي أن تُرجمت مئات الكتب العربية بدون ذكر للمؤلف في القرون الوسطى، وهو ما جعل من حضارة العرب العلمية تُنسب للمجهول في كثير من الأحيان، وامتدت هذه الحالة إلى العصر الحديث، فالتوجس الغربي من جنوب المتوسط ما زال قائماً، ويساعدها في ذلك حالة العرب المتردية والمتخلفة.
مما لا شك فيه ما حدث هو إجحاف وظلم وقمع لعلماء قدّموا مساهمات كبرى في بناء الحضارة الإنسانية الحالية، لكن الحصار للعقل التنويري جاء أيضاً من الخلف، فقد قمع بعض الفقهاء المسلمين الفلسفة والعلوم الأخرى، وصدرت منهم صكوك التكفير ضد أغلب علماء الطبيعة، وهو ما يعني أن التنوير في العقل العربي تلقى ضربات من مختلف الجهات، وكانت النهاية مؤلمة وحزينة..
سيظل السؤال الأهم عن توقيت عودة النور إلى التأثير العربي في مقدمات تاريخ العلم والسير التاريخية للعلوم، وهل قصّرت المجمعات والجامعات العربية في إبراز لتلك الأدوار العظيمة لعلماء العرب والمسلمين، والتي تم إزالتها عمداً وقسراً من تاريخ العلم الإنساني لأسباب دينية وسياسية واستعمارية.