د. جاسر الحربش
محاولة الاحتماء بخصوصيات أو فرادة أو هوية مغلقة ليس لها سوى معنى واحد، الخوف من الانهيار أمام المختلف بسبب عدم الثقة بالنفس. لا توجد خصوصيات مغلقة ولكن توجد خصوصيات مفتوحة، تصمد عندما تكون إيجابية أو تضمحل بالضمور التدريجي عند انتفاء الحاجة إليها. قدرة الاستمرار لأية خصوصية تعتمد على قوتها وجاذبيتها الأخلاقية والتعايشية فقط لا غير.
ما كان ملقناً لنا ونتعايش معه عن خصوصياتنا أدى إلى وجودنا خارج العالم الفاعل وعالة عليه، نشتري ما يقايضه لنا مقابل أموال النفط المنزوف من القيعان والكثبان، فنلبس ونركب ونبني ونأكل ونشرب ونعتقد أننا نعيش مع العالم الذي نستورد منه ونشتري، بينما هو يستنزفنا حتى وصلنا إلى الأنيميا المالية.
حقيقة كنا نعيش في عزلة ليست اختيارية، مفروضة علينا بثلاثة إدعاءات، الخصوصية المذهبية والخصوصية الجغرافية والخصوصية الأخلاقية. العامل الغائب والأهم في سبب العزلة كنا نتجاهله عمدا ً أو جبريا ً، وهو أن العالم المتطور يحتاج نفطنا ويتمنى لعزلتنا أن تدوم لكي يسترد أمواله بالتدوير الاستهلاكي، ولكي نبقى مخدرين عن استثمار الأموال في بناء المواطن المفكر العامل المستغني.
ها نحن الآن قد وصلنا إلى المرحلة الحرجة المتوقعة، أي إلى الاقتناع الجبري رغم أنف الخصوصيات بأن العالم الحي الحقيقي يسافر نحو المستقبل في عربة اسمها العلم والنظام والحسابات الدقيقة، وأن من يرفض الصعود إلى العربة يتخلف ويموت وحيدا ً بجفاف الأرض والفكر ثم تطمره الرمال. ما زال البعض يكابر بأن محاولتنا القفز بسرعة إلى عربة المستقبل قرار تاريخي مستعجل نستطيع رفضه أو تأجيله أو على الأقل طرحه للنقاش واللت والعجن والمماطلة، تفاديا ً لإلحاق الضرر بالمستفيد الأول من استمرار العزلة بحجة الخصوصيات الثلاث أي الجاهل الأناني الذي لا يفهم معنى المستقبل.
أبدا ً وعلى الإطلاق لم يعد لنا خيار الزمن ولا المال، ولكن يبقى لنا الخيار في تحكيم العقول المستوعبة لمعالم الطريق واختيار المكان الذي يناسبنا داخل العربة العالمية دون أن نضيع ونفقد بعضنا في الزحمة. أعتقد أننا نمر بمرحلة خلط الأولويات، فهناك بيننا المستعجلون على التغلغل في كل دهاليز وسراديب العولمة الكاملة، وهناك المرجفون المروجون لخطر السقوط في فخ الابتذال الأخلاقي والتحلل والتفكك الاجتماعي، وكلا الطرفين لا يقدم نظرة إيجابية للمستقبل.
لكن ما زال عندنا لحسن الحظ العقلاء الوسطيون المستوعبون لإيجابيات وسلبيات الماضي وإيجابيات وسلبيات ماهو قادم، وعلى هؤلاء الوسطيين يعتمد نجاح الرؤية والتخطيط مع استبقاء جوهر الروح القديمة في الجسد والعقل الجديد.