الحديث عن التسامح وثقافته حديث ذو شجون ينبع من الجانب الفردي وينتهي بالجانب الجماعي وقبل الشروع في الحديث المفصل عن التسامح لا بُدَّ أن نراعي الجوانب التالية ذات الأبعاد المهمة الجانب النفسي والجانب الاجتماعي والجانب التربوي والجانب الثقافي فلا بد أن ندرك تمام الإدراك أبعاد تلك الجوانب لفهم معانيها الحقيقة لهذه الثقافة وما يمكن أن تحققه للمجتمع من خير وسلام فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم {شَرَعَ لَكُم مِّنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ } (13) سورة الشورى.
وقال تعالى {ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} (125) سورة النحل.
فيبدو أن المفهوم العام للتسامح لا يزال محل جدال وعراك من الناحية اللغوية في إطار الثقافتين العربية والغربية وليس المرء هنا في صدد هذا البحث ومن خلال هذا المنطلق سنتجاوز كافة أبجديات الأدبيات الخارجية كمرجع قانوني فضلاً على أنها تشكل قاعدة الالتقاء بين مختلف الثقافات فديننا الإسلامي الحنيف رسخ مبادئ التسامح بين كافة شعوب الأرض قاطبة وبين المسلمين وغيرهم فإذا أراد المرء أن يتحدث عن أهمية التسامح فعليه بداية أن يحدد الهدف المقصود بهذا التعبير.
فالتسامح بمعناه السهل والمبسط هو بمثابة القدرة على تقبل أمور معينة تختلف عما هو معروف لدينا أو ما هو من المعتقد فهذا حسب بعض المصادر -فمعنى التسامح هو القدرة على التعايش مع أقوام يختلفون عنا في الصفات الأساسية فمن منا لا يحظى ومن منا لا يضعف أمام هزات الحياة ومشكلاتها- كلنا يتذكر قول نبي الأمة المحمدية صلوات الله وسلامه عليه - (كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون) فالتوبة - دعوة إلى الباري عز وجل بقبول التوبة من جرم أو خطيئة أو إيذاء فإن الأديان السماوية وفي مقدمتها ديننا الإسلامي الحنيف الذي يرشدنا في هذا المضمار إلى التصالح مع النفس قبل أن نتصالح مع الآخرين -وهذا ما ينطبق مع المقولة المشهورة- (الاعتراف بالخطأ فضيلة) فالواجب علينا جميعاً أن نتعلم كيف نعترف بأخطائنا وكيف نتصارح مع أنفسنا غير مكترثين بأخطائنا تاركين عقولنا تعاني من التوتر والقلق حتى لا تتحول حياتنا دائرة حراك وعراك مع النفس البشرية ومع الآخرين تاركين الدائرة تدور بأمن وسلام - فعصرنا الحالي يشهد أبشع أنواع الظلم والإيذاء والعنف والعدوان والقهر والحرب سؤال يطرح على القارئ الكريم عبر هذا المقال - لماذا لم نحول كافة أبجديات المحبة والتسامح على السطح؟ حيث إن الكتب والرسائل والدلائل تتداول هذه الأبجديات منذ وقت طويل وبكافة لغات العالم عن هذه القيم الجميلة - علماً أننا مع الأسف الشديد نتداولها ببغاوياً لم تصل إلى مستوى تطبيقها عملياً على مستوى السلوك والتعرف فهذا أمر مؤلم ومحير فإن ممارسة مبادئ التسامح لا يعني تقبل الظلم والإيذاء وإنما يعني أن المرء في حاله حر في تمسكه بمعتقداته فهذا هو سياق الوئام في سياق الاختلاف فالله سبحانه وتعالى يقول في محكم كتابه الكريم {وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (13) سورة الحجرات.
لا فرق بين هذا وذاك فالبشر أسوياء على أساس العرق أو الدين أو اللغة أو الجنس أو المعتقد السياسي أو الطبقة الاجتماعية فالاختلاف بين البشر على أساس هذه المتغيرات آنفة الذكر لا تمنعهم أن يعيشوا معاً متحابين ومتوافقين.
وعلى الرغم من قوانين السماء ومواثيق الارض فإن ثقافة اللا تسامح هي الثقافة السائدة بين بني البشر ومن ينظر اليوم إلى العالم أنه يعيش في قرية صغيرة متكاملة الأوصاف والجوانب كل يتصفح المواقع المتعددة عبر الشبكة العنكبوتية بأيسر الطرق وأسهلها يجد العجب العجاب من شتى أنواع الظلم والعنف والتطرف والتحيز والغلو والقتل والتشريد والدمار والسلب والنهب والنفاق والكذب والغش والخداع وغير ذلك فالتسامح مصطلح له دلالاته ومعانيه على مستوى اللفظ أو في سياق الحديث بل هو ثقافة متكاملة تتجاوز المعنى النصي فهو أمر جوهري في عالمنا الحديث وأمر جوهري في عالمنا العربي - لأن ديننا الإسلامي الحنيف يدعو إلى المحبة والتسامح والسلام إلا أننا اليوم بعيدين كل البعد عن هذه القيم الإنسانية العظيمة لأن هذا الأمر يساهم بشكل كبير في تعظيم مبادئ اللا تسامح مما يفضي إلى التنافس غير المشروع بين الشعوب في مجال الحروب والاقتتال فيما بينهم.
فالأمة اليوم بحاجة ماسة إلى ثقافة التسامح لأنها هي الحل الوحيد في إنقاذ الأمة من الهلاك والدمار والانحطاط فإن روح التسامح يعتمد في الأساس على المحبة والمودة والرحمة بين شعوب الأرض قاطبة من أقوال احد الحكماء:
- لذة التسامح أطيب من لذة التشفي فالأولى يلحقها حمد العاقبة والثانية يلحقها الندم!!
قال الكاتب دايل كانيجي:
- لكي تعرف الجميع عليك أن تسامح الجميع.
والله الموفق والمعين