خالد بن حمد المالك
تمضي بنا الحياة إلى نهايتها، بأسرع من سنينها وأشهرها وأيامها وحتى من ساعاتها، لتلقي بنا أخيراً إلى حفرة بقياس أجسامنا، وكأن أعمارنا لا تتجاوز غمضة عين، وكأننا لم نمكث على هذه الأرض سنوات من أعمارنا، هي هكذا الحياة تصدمنا بفقد القريب والصديق وخسارة من نحب، وكأننا لسنا بانتظار الموت بمثل من سبقونا إليه.
* *
هكذا هي أيامنا في الحياة: معدودة ومحسوبة ومسجلة، وما من أحد فكّر بموعد موته، وتاريخ وفاته، والسنة التي سيتوقف فيها نبض قلبه، أو أن الموت سيأخذه ذات يوم من الحياة كما أخذ سابقيه، فكل منا يمضي في حياته بكل أفراحها وأتراحها، وكأن الموت سيأتي آجلاً لا عاجلاً، مع أن الموت إن زارنا سريعاً أو تأخر لبعض الوقت هو المصير والنهاية التي لا مفر منها.
* *
أجل هكذا هي الحياة، كدر بعد صفو، وحزن بعد سرور، ما أن تنتهي من فاجعة حتى تفاجأ بمثلها، وأنت ساهٍ ومنشغل عن كل تفكير يدنيك من مأساة هي في مراحل توقيتها الأخير، وأنها ستحل بك، بمراراتها وأوجاعها، وبكل ما يرتبط بها من منغصات وأسى، وبكل أوجاعها وآثارها وصدماتها الموجعة.
* *
الموت حين يزورنا، لا يستأذننا، ولا يأخذ موافقتنا، ولا يراعي مشاعر الحزن الذي سيخيم على أجوائنا، فهذه أقدار كتبها الله علينا، ونهايات لا خيار لنا عنها، قبلنا بها، وتقبلناها، أم كنا مكرهين ومجبرين عليها، إنها سنة الحياة، ولن يكون لها تبديلاً.
* *
نعم نُكره على القبول بموت من نحبه ونغليه، لأنه حين يحدث ذلك لن يكون برداً وسلاماً، وإنما سيكون نزوله علينا كالصاعقة، وأثره على نفسياتنا ومشاعرنا كأثر السم في جسد اللديغ، مع أننا نؤمن بالقضاء والقدر، وامتداداً بما قدّره الله، وأننا حينئذٍ لا نملك إلا القبول به، والترحم والدعاء على من أصبح في عداد الموتى، حتى وإن كان الموت لأحبائنا مصدر جرح لن يندمل.
* *
أكتب هذا بدمعي، وقد فقدت أمس أخي وحبيبي ومن هو في قامة والدي -رحمهما الله- ولم تكن العبرات والدموع، وحشرجة الصدر بالآهات كافية لإطفاء حجم المعاناة التي أشعر بها، وقيمة الفقد الذي أعانيه، ومساحة الفراغ الذي سيتركه، فهذه مأساتي وهذا حزني وتلك لوعتي في فراق أخي فضيلة الشيخ منصور بن حمد المالك.
* *
أكاد لا أصدق أنه مات، وأنه لم يبق له من مكان في هذه الحياة، وأنه ودعنا ولن نراه في حياتنا بعد اليوم، وأننا بدونه سوف نمضي بما تبقى لنا من عمر في دنيانا، وأن لا أحد إلا الله قادر على أن يجمعنا به بعد نهاية أعمارنا في جنات النعيم، فما أصعبه من موقف نمر به، دون أن تكون لدينا حيلة أو قدرة أو إمكانية لهزيمة المرض حتى نجد أنفسنا في موقف غير هذا الموقف.
* *
إن أصعب ما يواجهه الإنسان، أن يعيش عمره وحياته لصيقاً بإنسان آخر، معه دائماً في كل شيء، وفجأة يكون الانفصال، وفجأة يغيب أحدهما عن الآخر، دون أن تكون هناك فرصة في المستقبل للقاء، مسلماً أمره إلى الله، عاجزاً ومستسلماً وضعيفاً ومنكسراً أمام قدرة الله وإرادة الله، فيا حزني إذ أفقد أخاً وصديقاً وأباً، ورمزاً في النزاهة والعدل، وقدوة في الخوف من الله، ومثالاً يُحتذى في الزهد والتواضع، إنه أخي وشيخنا فضيلة رئيس ديوان المظالم الأسبق منصور بن حمد المالك.
* *
كل من زامل الفقيد، أو تعلم على يديه، أو كان تحت إدارته، أو تعرّف عليه، أو صاحبه ورافقه في رحلة الحياة لن يكون حديثه عنه، إلا في حدود تميزه بالتواضع والخلق وحسن المنطق واحترام الآخرين، حيث لا تسمع منه إلا الكلمة الطيبة، وإن استشرته فسوف تجد المشورة التي تدلك على الخير وتدنيك من الطريق الصحيح، وإن جادلته بما لا يوافقك عليه فسوف ينأى بنفسه عن الأخذ والعطاء معك، ولكن بكلمات لا تغضبك، وبمعاملة كريمة ترضى عنها، فتقدر له موقفه وإنسانيته.
* *
علاقاته الاجتماعية واسعة، وصداقاته تمتد إلى كل مناطق المملكة، يحب الخير للناس، ويحترم الصغير والكبير، وبعطي كل ذي حق حقه من التقدير والاحترام، في طبيعته التي لا يتصنعها، وعادته التي لا يتجمل بها، بأسلوب جميل اختاره نمطاً في حياته، مما حبب الآخرين به، وزاد تقديره لديهم، ونُظر إليه باحترام لا يُمنح عادة إلا لمن حمل من الصفات والمواصفات بمثل ما كان عليه فقيدنا أخي الشيخ الزاهد الشيخ منصور المالك.
* *
أكتب عن أخي، بدموعي لا بقلمي، فلا أستطيع أن أوفيه حقه، ولا أن أمنحه بما يستحق، ولا أن أقول عنه بما يجب، فالموقف يلغي أي تفكير لاختيار العبارة والأسلوب والمعلومة، مهزوماً قلمي وشخصي بفاجعة الوفاة، ضعيفاً في التركيز أمام هول المصيبة التي حلت بنا، لا أدري من أين أبدأ ومن أين أنتهي.
* *
رحم الله أخي وحبيبي الغالي الشيخ منصور بن حمد المالك، الرجل الذي كان بمثابة الوالد والمعلم والصديق، فقد كان علماً من الأعلام، وشخصية من الشخصيات البارزة، لقي في حياته كل التقدير، وإن شاء الله سيكون مكانه في جنات النعيم، فقد قضى حياته ساجداً عابداً وصائماً، وصديقاً للمسجد، ومخلصاً في عمله، وباراً بوالديه، ومرجعاً لأفراد أسرته وخارج أفراد أسرته كلما كانت هناك حاجة لكلمة العقل، وحجة في الرأي.
* *
إني أبكيه وعيناي تدمعان لفراقه، فله مني كل الدعاء، فاللهم ارحمه واغفر له، ونقه من الذنوب كما ينقى الثوب الأبيض من الدنس، واجعل مقامه في عليين، مع المبشرين بالجنة والشهداء والأبرار، وأنعم عليه شآبيب رحمتك، وعوضه داراً خيراً من داره، واجمعنا به ووالدينا وأهلنا -يا رب يا غفور- في جنات النعيم.
* *
وفي ختام مرثيتي المرتبكة، أعزي زوجته المكلومة الصابرة المحتسبة (أم عبدالله) وأولاده وبناته، وأعزي نفسي وإخواني وأخواتي ومحبيه وعارفيه، فالخسارة كبيرة، والموت مفجع، ولا نقول أمام هول مصيبتنا إلا {إِنَّا لِلّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعونَ} فاللهم اجبر فقدنا، وعوض فقيدنا بما هو أحسن، واجعله في ظل رحمتك، واشمله بعنايتك وعطفك، وأحسبه في عداد من فازوا برضاك وغفرانك، وممن فتحت لهم أبواب جنتك، وممن أكرمتهم بإحسانك يا أرحم الراحمين.