د. محمد بن عبدالله آل عبداللطيف
نحمد الله على أن وطننا الغالي، بما فيه من ثراء مادي وروحي وأخلاقي، استضاف على مدى تاريخه أفراداً وجماعات من جنسيات وإثنيات مختلفة، وصهرهم في مجتمع واحد لا تمييز فيه ولا تفرقة، فالجميع متساوون أمام النظام، ويمتعون بالمواطنة ذاتها. فتعددت أوجه مجتمعنا الإثنية والثقافية والعرقية، وأسهم الجميع في بناء هذه الدولة التي يحسدنا عليها الكثيرون. ومعظمنا لا يريد تغيير سياسة المملكة في إجارة المستضعف وإكرام الوافد، فهذه من أخلاقنا التي نشأنا عليها ونفتخر بها، وهي سبب بركة مواردنا. وكل من يحمل جنسية هذا الوطن هو سعودي له الحقوق ذاتها وعليه الواجبات عينها، ولا يوجد لدينا أطياف مختلفة من السعوديين. هكذا كنا وهكذا يجب أن يكون.
غير أن الظروف المحيطة بنا، والظروف التي مر بها اقتصادنا خلقت تغييرات جذرية واقتصادية في مجتمعنا، وأفرزت بعض التركيبات الغريبة في اقتصادنا التي قد لا تتسق مع أصول المواطنة الواحدة. فمع استيفاد كثير من العمالة تكونت لنا شبه جاليات مختلفة، احتكر بعضها نشاطات اقتصادية معينة فتحول اقتصادنا في بعض قطاعاته إلى ما يشبه كانتونات؛ كل جنسية تتحكم في نشاط معين بشكل محكم ومغلق ليس على السعوديين فقط بل على الجنسيات الأخرى من الوافدين أيضا، فهناك من يتحكم بقطاع الأواني المنزلية، وغيره ممن يتحكم في مواد البناء، وآخرون يتحكمون بقطاع التجزئة والتغذية وهلم جرا. ولم تتوقف هذه الظاهرة عند قطاعات التجزئة فقط بل طالت بعض القطاعات البنكية والإنشائية. هذه التكتلات الاقتصادية قلصت فرص السعوديين في البحث عن عمل وقذفت بالكثير منهم لأتون البطالة والعوز.
ومما يؤسف له أن بعضها لم يكن لها أن تكون إلا بمساعدة شخصيات اقتصادية كبيرة ولدت ونشأت وكونت ثرواتها هنا، واعتقد البعض منها أنه مع ولائه للمملكة عليه فقط واجب النهوض بمسقط رأسه ومساعدة أبنائه، أما غيره من السعوديين فالدولة تتكفل بهم. وساعد فتح باب الاستقدام في تكوين الكانتونات السابقة الذكر.
ليس عيبًا أن يفتخر سعودي بجذوره الأصلية سواءً كانت عربية أو غير عربية، بل العكس من ذلك، هذا أمر مستحب ومحمود. لكن الأمر الذي يراه كثير من السعوديين غير منصف أن يؤثر هذا الولاء على الحس الوطني بقصد أو بغير قصد. وأن يبدأ التاجر أو الاقتصادي بالتفرقة ضد السعوديين الآخرين بحصر العمل في قطاعه بين أبناء وطنه الأصلي، أو أن تقتصر مشاركته في الأعمال الخيرية على ما يعتقد أنه وطنه الأصلي. فنحن ننظر له على أنه سعودي، وأن وطنه الأصلي الآن هو السعودية أيضا، خاصة إذا كان من أبناء الجيل الثاني أو الثالث. ولا أحد يطالب أي سعودي أيًا كانت أصوله بنسيان وطنه الأصلي، ولكن من العدل أن نطالبه بأن يعدل في ذلك وألا ينسى وطنه الحالي من المبادرات وأعمال الخير.
نرحب بالجميع بيننا ونقدرهم لذواتهم وميزاتهم الشخصية وإنجازاتهم وأمانتهم، لكننا لا نريد أن نفسد لحمتنا الوطنية بممارسة التفرقة من أي نوع. ونريد أن تكون هذه نظرة الجميع بمختلف طوائفهم، ففي ذلك خير لنا جميعًا. ولذا نرفض أن يتسبب احتكار المهن، أو التفرقة في المساهمات المجتمعية، بالتشكيك في ولاء أي سعودي أو سعودية. والمملكة كدولة وحكومة هي أكبر داعم للدول العربية الشقيقة وغيرها من الدول الإسلامية من قبل وبعد، ولذا لا يمكن إلا أن ترحب بهم على أرضها. ولا أحد، حكومة أو شعباً، يرغب في أن يمنع سعودي أو وافد من المساهمات الخيرية في بلده الأصلي، ولكن الحكمة والعقل تدفع إلى مراعاة حساسية السعوديين الآخرين بصرف النظر عن أصلهم أو منشأهم، ومبادرة التجار للمساهمة في المجتمع ككل، وليس فقط لفئة معينة أمر يفيدنا جميعًا.
و يتصاعد اليوم، وللأسف، جدل بغيض يشكك في ولاء بعض السعوديين باتهامهم بأن ولاءهم لمواطنهم الأصلية أكثر من ولائهم لمجتمعنا، وأنهم بعد كونوا ثروات ضخمة نقلوها لخارج المملكة وأتُهم بعضهم عن حسن نية السعوديين الآخرين بالدلع والكسل، وكان الأولى بهم مراعاة حساسية هذا الموضوع حفاظًا على التجانس المجتمعي.
فهذا الجدل لا بد أن يتوقف. ولكن لا بد أن يأخذ البعض زمام المبادرة لإثبات حسن النية الحسنة بالتحرك بمبادرات ومشاريع تسهم في توظيف السعوديين حسب الكفاءة لا القرابة، فمن واجب كل من كوّن ثروة أيام الرخاء الإسهام في حل البطالة أيام العوز، فمراكمة الثروات، ونقلها للخارج عوامل أساسية في تفاقم البطالة.