لا شك أن للآثار أهميتها الخاصة لدى البشر، التي تجعلهم حريصين على اقتنائها، والحفاظ عليها. وتأتي هذه الأهمية لما يتميز به الأثر من قيمٍ وما يتصف به من ميزات، لعلّ أهمها القيمة التاريخية، وهي القيمة التي تتوفر في كل الآثار، الثابتة والمنقولة، وذلك باعتبار الأثر تراث له تاريخ قد يمتد إلى آلاف السنين وقد يصل إلى مائة عام، وباعتباره الدليل المادي للتاريخ، وكونه قد يجسد حدثاً تاريخياً أو يسجل ويوثِّق لحياة شخصية تاريخية لها بصمتها في تاريخ الوطن أو العالم. وتزداد هذه القيمة تميُّزاً كلما امتد عمر الأثر وضرب بجذوره في التاريخ، أو طال بقاؤه على قيد الحياة وزادت مقاومته لعوادي الزمن.
والحقيقة أنه لا يمكن للأثر أن يبقى على قيد الحياة، ولا يمكن أن يحيا نابضاً عفيّاً دون حمايته ووقايته من التعرّض للضياع والدمار، ودون علاجه، وصيانته وترميمه مما يصيبه من تلف وتشوه. وما أشبه الأثر بالإنسان في معاناته، إلا أن الإنسان لديه القدرة على النطق والتعبير عمَّا يصيبه من آلام ومعاناة، بينما يكبِّل الصمت الأثر. وعادةً لا نلتفت لمعاناة الأثر إلاّ إذا استبدَّ به الألم وزادت معاناته، وظهرت أعراض مرضه عليه، عندها يكون التدخل لاستعادة عافيته واسترداد حيويته ونشاطه، أو المحافظة على استقرار حياته، أمراً واجباً.
وكما يحدث أن يتعرض البشر لموت مفاجئ كذلك يتعرض الأثر للضياع والدمار والانهيار المفاجئ، وإن اختلفت الأسباب ما بين السكتة القلبية، أو الدماغية، أو حدث عارض للإنسان، وبين الزلازل، والحرائق، والسيول والفيضانات والقصف الجوي للأثر.
كل هذا يجعل للحفاظ على الآثار ضرورة، وذلك للمحافظة عليه وعلى أصالته والحد من مسببات التلف والتدهور. ولقد صنِّفت هذه المسببات إلى: مسببات طبيعية، بعضها ذو تأثير شديد وفوري، مثل: الزلازل والهزات الأرضية، والسيول والفيضانات، ومنها ما يأخذ وقتاً طويلاً حتى يحكم دائرة التلف حول الأثر وحتى تظهر أعراض إصابته للأثر جلية واضحة، مثل: الحرارة والرطوبة والتفاوت في معدلاتهما، والتلف البيولوجي الناتج عن الكائنات الحيَّة الدقيقة والحشرات. وهناك المسببات البشرية، التي يتسبب الإنسان فيها، ومن أخطرها: الحروب والنزاعات المسلحة، والتلوث، والحرائق، والتدمير أو التشويه المتعمد الناتج عن الإهمال وقلة الوعي، والترميم الخاطئ في الأسلوب وفي نوعية المادة المستخدمة ونسبتها وتركيبها، وما قد يتعرض له الأثر أثناء نقله أو تناوله أو حمله من حوادث عارضه، وغيرها من العوامل والمسببات البشرية الأخرى التي قد تضر بالأثر أو تتسبب في تلفه وتدهور حالته أو ضياعه.
كل ما سبق يجعل من الحفاظ على الأثر ضرورةً ملحة، وتدخلاً لا بد منه حتى يمكن إنقاذ الأثر. وعادة ما يكون التدخل للحفاظ في صورة وقائية ويسمى بالحفاظ الوقائي Preventive conservation، أو في صورة تطبيقية ويسمى بالحفاظ التدخلي Active conservation.
والأول يهتم بالتحكم في بيئة الأثر، ومراقبتها والتحكم في عناصرها من رطوبة، وحرارة، وتلوث، وغبار وأتربة، والضوء أو الإضاءة، والأحياء بأنواعها (الدقيقة، والحشرات، والقوارض)، وكذلك تأثيرات العامل البشري. وأكثر استخدام لهذا النوع من الحفاظ يسمى بالإسعافات الأولي First aid في موقع الحفائر الأثرية عندما تحتاج القطع الأثرية المكتشفة حديثاً إلى تدخل سريع وبسيط من أجل وقايتها إلى أن تُجرى لها متطلبات الحفاظ التدخلي إذا استدعت حالتها ذلك. ويتطلب الحفاظ الوقائي الملاحظة المستمرة، والصيانة الدورية، والتي تشمل مهام يومية، مثل: التنظيف، والمسح لإزالة ما يتراكم أو يترسب على سطح المصدر التراثي من غبار، وأتربة، وعوالق من الجو، أو مهام أسبوعية، مثل: متابعة درجات الحرارة، ومعدل الرطوبة النسبية، والتحكم فيهما، أو مهام شهرية، مثل: مكافحة نمو النباتات على المباني، والمواقع التراثية، وهناك مهام أخرى موسمية، ومهام سنوية.
أما الحفاظ التدخلي Active conservation فهو التفاعل المباشر بين القائم بالحفاظ (المرمم)، ومادة الأثر. ويتطلب في البداية معرفة عوامل وأسباب تلف الأثر، وإدراك طبيعة وخواص وتركيب مادة الأثر والمادة المستخدمة في العلاج وتأثيراتها على المدى البعيد. ويمكن أن يشمل الحفاظ التدخلي تنظيف الأثر يدوياً، أو آلياً، أو باستخدام مواد كيميائية. وتقوية أماكن الضعف والهشاشة بمواد اصطلح على تسميتها بالمقويات Consolidants. ولصق الأجزاء المكسورة بمواد لاصقة Adhesives، وعزل الأثر عن الظروف المتلفة، والبيئة المحيطة بإضافة مواد أو أغطية واقية Protective coatings. وهناك مستويات للحفاظ التدخلي، يمكن حصرها فيما يلي:
* الحد الأدنى من الحفاظ: ويشمل التسجيل والتوثيق، وإجراءات الإسعافات الأولية، والفحص والتحليل، والحد الأدنى من النظافة الاستقصائية البسيطة، والتغليف السليم للتخزين أو النقل.
* الحفاظ الجزئي: ويشمل، إضافة إلى إجراءات الحد الأدنى من المحافظة، درجة عالية من التنظيف اليدوي أو الكيميائي، وإعادة تجميع الأجزاء المكسورة أو المنفصلة، دون استكمال أو إضافة.
* الحفاظ الشامل: ويشمل جميع الإجراءات السابقة في الحفاظ الجزئي، وإعادة بناء لبعض أجزاء الأثر المهدمة، واستكمال لبعض الأجزاء المفقودة على أن يكون هذا التدخل مشروطاً ومحسوباً، إضافة إلى تحقيق التوازن البيئي المباشر، أو تطبيق أغطية عازلة وواقية من التأثيرات المتلفة للبيئة المحيطة.
* الحفاظ للعرض، وتشمل جميع الإجراءات السابقة في الحفاظ الشامل، كما أنه قد يتطلب تنظيفاً وترميماً إضافيين، وقد يحتاج الأمر إلى معالجة تجميلية وتهيئة البيئة المحيطة بالأثر.
معايير وأسس الحفاظ على الآثار
حددت الاتفاقيات والمواثيق الدولية العديدة مجموعة من المعايير والأسس، التي يجب اتباعها عند التدخل للحفاظ على الآثار، يمكن إجمالها في النقاط التالية:
1- التجانس Compatibility بين أسلوب الحفاظ ومواده من جهة، وبين الأثر ومادته من جهة أخرى، وذلك في المظهر الخارجي من حيث الشكل واللون وغير ذلك، وفي التكوين أو التركيب الكيميائي الداخلي. ولضمان تحقيق ذلك ينبغي أن يسبق عمليات الحفاظ فحص وتحليل للأثر، ومحاولة إيجاد مواد لها نفس طبيعته وتركيبه حتى يتم تحقيق التجانس بينهما.
2- الاسترجاعية Reversibility ، أي إمكانية استعادة ما يتم استخدامه في الحفاظ أو التخلص منه عند الحاجة دون حدوث أضرار للأثر. ومع أهمية هذه الصفة في مواد الحفاظ إلا أنه قد يكون من الصعب تحقيقها بشكل مطلق، والأمر يقتضي المحاولة للحصول على أعلى قدر من هذه الصفة في المواد المستخدمة.
3- التمييز Distinction بين مواد وطريقة الحفاظ، وخاصة في حالة استكمال الأجزاء المفقودة من الأثر، وبين ما هو أصلي قديم من الأثر. على ألاََ يكون بشكل صارخ فيؤدي إلى عدم التجانس بينهما، فوحدة الأثر يجب أن نحافظ عليها، وكذلك السيطرة البصرية للعناصر القديمة على ما يستجد على المصدر.
4 - الحدود الدنيا Minimum Intervention من إضافة مواد الحفاظ، وذلك حفاظاً على أصالة الأثر، وحتى لا تطغى المواد الحديثة على طابع القدم له.
5- المحافظة على الشكل الخارجي Volumetric boundary، والتكوين الداخلي، أو الفراغات الداخلية في الأثر وخاصة المهمة منها، وهو جزء من المحافظة على أصالة الأثر أيضاً.
مسؤول الحفاظ (المرمم)
وهو الذي يتعامل مع الأثر تعاملاً مباشراً بغرض الحفاظ عليه، ويتابع حالته، ويهيئ أنسب الظروف لحمايته. وينبغي أن يكون متخصصاً في مجال بعينه، مثل: الحفاظ على الآثار المعمارية (المباني الحجرية، أو الطينية)، أو الآثار الدقيقة (الحجرية، المعدنية، الفخارية، الصور الجدارية، المنسوجات والسجاد، المخطوطات والأوراق ..وغيرها). ومع ذلك، يجب أن يكون على دراية بكيفية التعامل مع مختلف المواد الأثرية، وخاصة إذا دعت الضرورة كما في حالة مواقع الحفائر. ويجب أن تتوفر فيه الصفات التالية:
* أن يكون مدركاً لقيمة الأثر الذي يقوم بالحفاظ عليه، وأن يكون على دراية تامة بطبيعة المواد الأثرية، وتركيبها الدقيق.
* أن يكون على دراية بطبيعة، وتركيب، المواد التي يستخدمها في عمله، وألّا يستخدم مادة جديدة دون تجربتها والتأكد من سلامتها وتحديد الآثار الجانبية لها على المدى البعيد.
* أن يتسلح بالعلم فيكون ملمَّاً بكل ما هو جديد في مجال تخصصه، ويطوِّر من معارفه ومهاراته؛ بهدف تطوير عمله الاحترافي.
* أن يتحلّى بالمهارة اليدوية، والخبرة العملية، وكذلك التدريب، والممارسة المستمرة.
* أن يحترم مبادئ وآداب المهنة، وأن يعمل في إطار المعايير المتعارف عليها دولياً في مجال الحفاظ والصيانة التي أقرتها الاتفاقيات والمواثيق الدولية.
* أن يتصف بالصبر، والهدوء، والأناة، فعملية الحفاظ لا يمكن تحديد عمرها الزمني.
** **
د. محمد أبو الفتوح غنيم