المسافة بين تصفّح كتابٍ لقائد، صاحب فكرٍ مؤثر ورؤية متينة، وقدرة على الإيحاء لأبناء وطن، ولن أكون بالمبالغ إذا قلت الإيحاء لأمّة بأجمعها ترى فيما تمّ تقديمه أملاً وفي أفعاله نموذجاً مثالياً لتحويل الخيال إلى واقع، الفرق بين تصفّح ذلك النوع من الكتابات وبين القراءة لمن يلازم الكتابة سواء السياسية أو الاقتصادية أو الأدبية والشعرية كما هو الفرق بين مشاهدة لوحة ذات إطار فني جميل متكامل، جاذبة للأنظار.
ويقف الناس أمامها طويلاً بالتأمل في روعة خطوطها، ودقة تفاصيلها، وتوافق مكوناتها، وقوة معانيها، وجمال دلالتها، وعظيم تأثيرها، وعمق بقائها في الذاكرة، الأمر الذي قد يجعل البعض يضحّي بالملايين ليقتنيها، وبين أن تجد تلك اللوحة الفنية الجميلة واقعاً معاشاً تسير في أنحائها وتتأثر بمكوناتها وتحس بمساراتها، وبدلاً من أن تكون راءٍ لها تصبح جزءاً منها ومكوِّناً أساساً فيها، إنه الفرق بين تلك المدينة الفاضلة، أحد أحلام الفيلسوف المشهور «أفلاطون»، وبين أن تكون تلك المدينة واقعاً يشاهده الناس ويعيشونه أو يطمحون في الوصول إليه دون تردّد أو خوف.
أقول الفرق بين القراءة لتجربة قائد خاض معارك متنوعة على جبهات البناء بفرعه المادي لتجويد السياحة لأبناء وطنه، والفرع النفسي ليضع الأطر والقوانين كيف يمكن الاستمتاع بذلك البناء، في الوقت الذي تعدُّ فيه أجيالاً قادرة على المشاركة في السياحة والتراث كأحد أهم خياراته لفرص العمل والاستثمار، والدفع به لأنْ يكون تاريخ وحضارة وطنه حاضرين في وجدانه وحياته، وليتحول ليكون أول حامٍ لإرثه الحضاري وتراث وطنه العريق.
إنّ الفرق بين التطواف في تجربة قائدٍ كتب كلماتها بمداد من العمل المتواصل والجهد الدؤوب، والحماسة التي لا تعرف التردّد، والعزيمة التي لا تعرف التلكّؤ، وبين القراءة لكاتب يخوض معارك فكرية عبر قوانين ونظريات فلسفية في القيادة، هو الفرق بين من يحلِّق في السماء ليرى توافق المشهد من أعلى، وبين من ينزل على أرض الواقع لينفّذ ما أجال به فكره وسار به خياله.
وفي الواقع يتعامل مع معوقات ندر أن توجد في الخيال، وتحديات قد تنهي كل الطموحات والآمال. إن مسؤولية القائد لا تعطيه رفاهية وغنى الفكر، لكنها تمنح صاحبها مع الفكر تعايشاً وتعاملاً واقعياً مع ما هو متاح، ومع الخيال حقائق، ومع النظريات أطر واستراتيجيات لتنمية السياحة الوطنية المُقرّة من الدولة.
الفرق بين القراءة لقائد كان الفكر وراء الفعل ورسم الخطط خلف الجهد والرؤية سابقة للتنفيذ والعزيمة دافعة للتطبيق، والتطبيق له أثر في صناعة المواطن، وصناعة المواطن وقود لاحتضان السياحة والاستفادة من عوائدها المجزية عملاً واستهلاكاً واستثماراً وثمرة يانعة في متناول الجميع، وفي كل وقودٍ تميّز وتفرّد أعطى أنموذجاً ملهماً، أقول الفرق بين أنك قد تقرأ لكاتب أو مفكر يهتم بالسياسة أو أديب أو عالم نفس أو صاحب خبرة في الاقتصاد أو قُلْ ما شئت، غير أنك تذهب معه في منهجه كمن يتذوق طعاماً واحداً طوال الوقت، غير أن القائد الحقيقي المعني بالحفاظ على مكتسبات مسيرة السياحة والتراث الوطني والانطلاق بها إلى الأمام.
وتدبير أمور المواطنين والمواطنات الباحثين عن فرص للعمل في حياة أفضل، وتكوين أجيال قادرة على السير مع موكب البناء لتصبح هي أول المطالبة بتطوير السياحة الوطنية لتكون بأفضل مستويات الجودة والتنوع، هنا تجد نفسك أمام مفكر حين تتفحص رؤيته ونظرته للمستقبل وكيف يرى مستقبل السياحة في وطنه، وأمام متفوق في التخطيط حين تتفحص أن تطلعاته وطموحاته لم تقف عند الأمنيات والأحلام.
لكنه حدّد ملامح الوصول إليها، وأمام فضائيٍّ حين تجد أن رؤاه حالمة، جعل من مكّوك قطاع سياحة وتراث وطنه غاية، بعيداً عن كل الأرقام التي يخاف منها الفرد ويستحيل على المواطن في كثير من الأوقات أن يفهم إشاراتها، ورجل اقتصاد من نوع فريد يستشرف المستقبل ويرى فرص النجاح تمثل أمامه ويعزم بالدخول فيها لتحقيق إيرادات سياحية عالية في مورد غير نفطي، ثم تجد نفسك أمام متعبد جعل من مصلحة وطنه ومواطنيه محرابه وتحقيق طموحاته قبل ذلك وبعد ذلك معلّقاً بتوفيق الله سبحانه وتعالى.
كل تلك الأفكار والخواطر اقتحمت فكري مع كل صفحة من تجربة الهيئة العامة للسياحة والتراث الوطني ومسيرتها في البناء والتنظيم والتطوير منذ تأسيسها عام 1421هـ التي سردها أول أمين عام لها صاحب السمو الملكي الأمير سلطان بن سلمان بن عبدالعزيز في كتابه (الخيال الممكن)، تلكم الوثيقة التي ما إن طفقت أقلِّب في أول صفحاتها حتى وجدت نفسي رغماً عنها عاجزاً عن التوقف، رغم أنها كانت ساعات من الليل متأخرة، في الشتاء حين يطول الليل ويسكن المحيط وترتاح الروح وتستعد النفس للتلقي، غير أن وقوفي عند أبواب الكتاب لم تؤدي للنوم مسلكاً إلى أجفاني رغم أنسنة منهجه وجمال أسلوبه.
كما الأب عندما يريد أن يعطى لابنه دواء دون أن يشعره بمرارة مذاقه، المتمثلة في التحديات والإحباطات والمثبطات التي واجهت مسيرة السياحة في وطننا، وطاف بنا فيها سموه منطلقاً من بدايات كانت مرارتها دافعاً للتأسيس والبناء والمشاركة المثمرة، وحاضر لن تكون نجاحاته سبباً في الميل إلى الراحة والتقاعس.
إنَّ كتاب (الخيال الممكن) وثيقة فخر وطنية ومسار عمل نضجه، إنه أسّس لاتجاه غير مألوف في العمل الوطني حين تكون المبادرات الإيجابية سبباً للرقي والتقدم، ويكون الصعب وجهة نظر، وأن فرص النجاح لا يراها أصحاب النظارات السوداء التي لم تُصنع.
إن هذه الرؤية النافذة، والتي جعلت من (الخيال الممكن) واقعاً حيّاً معاشاً، يجب الوقوف أمامها طويلاً بالنظر والتأمل حتى يرى أبناؤنا كيف أن إرادات الرجال تفعل الصعب، وأن النظرة البعيدة لا بد أن يكون معها طموح، وأن خيال الأمس المنضبط بالإبداع المطلوب في العمل هو واقعٌ اليوم.