النشاط الفكري العام يبدأ بالفهم الذي يعتبر مدخلا لأي معلومة جديدة وتحليلها واستيعابها، هذه العملية العقلية الديناميكية والتي تقوم على بناء فكرة متماسكة حول أمر ما تبنى على معارف يستعان بها في ربط جديد المعارف بقديمها، ويمكن استدعاؤها عند الحاجة ليتم تصنيف الجديد منها مثلا.. عملية الفهم هذه تمر بمراحل منها مرحلة المرور على البنية السطحية للمعلومة أو الفكرة أو الحالة لفهم مفرداتها السطحية، ثم بعد ذلك فهم تركيبتها وبعد ذلك استخلاص واستنتاج المرمى النهائي للفكرة.
إلا أن هناك من الناس من يستنفر كل ما يمكنه استنفاره كي يصد أي فكرة تقترب من طبلة أذنيه لتقرعها، فأي معلومة جديدة هو زائر غريب غير مرحب به بالاقتراب من حواسه الادراكية، فتجده يصم اذنيه ويغلق عينيه فلا يسمح بما هو جديد بالاقتراب من جمجمته المحروسة، ناهيك بالعبور إلى داخلها وان سمح على مضض بذلك فتجده لا يرى منها إلا قشرها أو سطحها، فيكون التفاعل الفكري والاستجابة الفكرية ضعيفة أو معدومة، وهذا يعود لاسباب كثيرة جدًا نذكر منها على سبيل المثال لا الحصر، اولا جهاز الاستقبال عنده معطل لدرجة كبيرة أو من نوع عفى عليه الزمن فلا يستطيع استقبال الاشارات والرسائل الفكرية وإن استقبل بعضها لا يستطيع تحليلها وفهمها، اما ادراكها فهذا من المستحيلات السبعة، ثم الحالة النفسية لهذا المخلوق الذي يشعر بنقص ذات وقصور فهم وعدم قدرة على كسب معلومات جديدة، فهي ثقيلة عليه ثقل جبل افرست بارتفاعه الشديد فيرى ان لا قدرة له على اعتلائه، ومنهم من هو أصلا غير مبال ولا مهتم على التعرف على ما هو جديد واضافته كمخزون معرفي مفيد، فهو من قوم أكل شرب نام.. آخرون لا دافع ايجابياً لهم يحثهم على استقبال اي فكرة جديدة وليس حتميا عليه ان يقبلها، وهناك من تنقصه القدرة والاستطاعة في جلب اركان الصورة الحقيقية لاي فكرة وربط اركانها ببعضها، لكي تكون له صورة واضحة يستطيع فهم بعض منها او جلها, حيث ان لكل فكرة أركانا وخصائص تمايزها عن غيرها، فالبعض لا يستطيع استدعاء كل أو بعض هذه العناصر ليكتفي باستدعاء جزء منها أو ما يظهر منها فقط، وهو ما يسمى التفكير السطحي أو المحدود.. لا يكاد يسمع شيئا جديدا إلا أن أحضر واقفل مقابل ذلك كل الاقفال حول دماغه، وكانه يخاف أن يُسرق أو يُستهلك..!
فلا يكاد يصدق البعض أن يسمع شيئا جديدا ما ليصم بكلتا يديه أذنيه و بقوة، لكي لا يتسرب من هذا الجديد اي شيء إلى جمجمته التي غلفها بجدار واق عليه من الحراس ما يكفي لصد اي فكرة جديدة عن الدخول إلى عالمه، ولكي تبقى طرقات ودروب دماغه الملتفة قليلا (أقول قليلا لأني لا أظن انها ملتفة بشكل كاف لتتمكن من التفكير السليم, حسب ما أورد العلماء بان الذكاء يتناسب بحسب قوة تلافيف الدماغ) بلا مارة وبلا سكان..!
قد يمشي البعض بالطريق فاتحاً عينيه إلا انه وبلا أدنى شك لا يرى شيئا سوى الحجارة التي لا يجب ان يتعثر بها وقد يتعثر بها احيانا، فهو لا يرى جمال ما حوله أو عكسه، لا يلاحظ ما يجب ملاحظته ولا يتفاعل مع محيطه.. عندما تحاول ان تحدث هذا النوع من البشر فهو لا يسمعك، ليس انه لا يسمع هزات واهتزازات صوتك إلا ان هذه الاهتزازات تبقى اهتزازات ميكانيكية الأثر فقط حدها طبلة اذنه، فالكثير مما تقوله لا يتعدى حواجز وضعها لنفسه تحرس عقله.. فيمتنع عن السماع لاي معلومة أو أي فكرة يرى انها تتعب دماغه المرتاح من كل ما هو جديد، وكأنه يضع حراساً على جمجمته ودماغه لكي لا يدخلها اي جديد.
هذا النوع من البشر لا تجعل منه أنت ايضا جدارا يعطل افكارك ليزعجك باي شكل، ما عليك الا ان تتجاوزه وتتخطاه كأي عثرة في الطريق، فلا تحاول اقناعه أو اعطاءه أي نوع من النصائح لان البعض عصي على التعلم، عصي على التغيير، عصي على التحسن، فإذا ما التقيت هؤلاء فالمرور من فوقهم أجمل وتجاوزهم انفع، فالمحاولة هنا ضياع للوقت وانهاك للأعصاب ليس الا..!
هذا لا يعني ان هؤلاء عديمي الفائدة؛ بل هم قد يفضلون أموراً أخرى يجيدونها لكن عادة تكون تحت اشراف احد غيرهم، فقابلية التنفيذ عندهم من مرؤوسيهم مرتفعة فهم ينفذون ما يطلب منهم دون نقاش، خاصة الأمور التي لا تحتاج أي فكر.. وقد يجيدون صناعتهم الخاصة بهم بشكل جيد خاصة تلك التي لا تتطلب اي تحديث للافكار والمعلومات ولا تحتاج لتحمل مسؤولية عالية.
في النهاية هذا ما يسمى بالتفكير المحدود أو السطحي وهو الذي يكتفي بالنظر إلى قشور الأمور، دون الاستطاعة إلى الغوص في بحور الافكار والتعرف على خواصها وميزاتها، ويكتفي التفكير المحدود بما هو ظاهر له ويراه بعينيه دون القدرة على الرؤية بعقله وجوارحه.
فأتصور انه يجب ان تكون الغاية الأولى من التعليم هي تعليم كيفية استخلاص المعارف والعلوم، أي التدريب على التفكير الصحيح ومنه إلى اكتساب العلوم، حيث إن المعرفة تتم بعد تلقي المعلومات عند الإنسان الذي درب عقله على استقبالها استقبالا سليما، أي أن العملية التربوية التي تساهم إلى حد كبير في مجال التفكير يجب ان يكون أحد اهدافها تمرين العقل على الفهم والإدراك، وليس فقط زج المعلومات في عقول الطلاب ما يؤدي إلى تطور في مهارات التفكير العليا، ما يمكن الإنسان من استيعاب و ادراك ما يستجد من افكار ويوظف كل معلومة جديدة في ترقية عملية التفكير.