عبدالله بن موسى الطاير
تاريخ المملكة العربية السعودية يعيد نفسه؛ في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي كان الملك عبدالعزيز منشغلاً بتوحيد المملكة وتثبيت إركان الدولة، وكان ابنه الشاب (فيصل) يجوب العواصم الغربية والعربية والإسلامية. في الرابعة عشرة من عمره وقيل الثانية عشرة زار بريطانيا عام 1919م، وتفقد مواقع بعض المعارك التي انتصر فيها الحلفاء، وكان رمزًا لدولة تتشكل في الجزيرة العربية. وفي عام 1932م زار أوروبا وروسيا باحثًا عن اعتراف سياسي بالدولة السعودية المعلنة وطالبًا مساعدات مادية، فخذلته بريطانيا التي عرضت عليه أسلحة بينما كان يبحث عن تنمية، ورغم قضاء عشرة أيام في الاتحاد السوفيتي فقد خذله الروس الذين اشترطوا القطيعة مع بريطانيا في وقت كان يبحث فيه عن صداقات وليس عداوات.
اليوم يراقب الملك الهمام سلمان زيارة ابنه وولي عهده لمصر ثم بريطانيا وبعدها أمريكا وهو يبحث عن تحالفات اقتصادية، وشركاء تنمية في رؤية سعودية طموحة. وإذا كانت تحديات عام 1932م وجودية وواجهها الملك المؤسس بالأمير فيصل -رحمهما الله-، فإن الملك سلمان يواجه تحديات القرن الواحد والعشرين بالأمير محمد بن سلمان -حفظهما الله. لقد كانت وجهته الدولية الأولى منذ ولاية العهد لمصر مستذكرًا مكانتها التاريخية للمملكة، ثم بريطانيا والحلف القديم الجديد الذي بقي ثابتًا إستراتيجيًا رغم المتغيرات السياسية والخلافات التكتيكية، وسيحل في أمريكا كثالث دولة في جولته الرسمية الأولى كولي للعهد، ليؤكد لهذه الدول ذات الأهمية المحورية أن المملكة تعبر مرحلة تحول وجودية، وأنها بحاجة إلى الأصدقاء معولاً في ذلك على تاريخ من الشراكات التي اختبرتها الظروف فصمدت في وجه كل التحديات.
تحديات الماضي وتهديدها مستقبل المملكة الوليدة لا تختلف كثيرًا عن تحديات الحاضر، والرجال الذين أداروا تلك المنعطفات التاريخية هم الذين يديرون مستقبل المملكة وإن اختلفت الأسماء، فالهمة واحدة والإصرار قاسم مشترك، والفارق الرئيس أن الخبرة التراكمية أكسبت الأمير محمد بن سلمان صلابة وعمقًا وقدرة على المناورة لا تتوفر لمن هم في عمره.
الملكة اليزابيث الثانية تسلمت الحكم في فبراير 1952م، وبذلك أدركت الملك عبدالعزيز والتقت الملوك السعوديين جميعًا، وعندما صافحت الأمير محمد بن سلمان لم تر فيه شابًا يافعًا متحمسًا لخدمة بلاده والسلم والاستقرار العالمي فحسب، وإنما رأت فيه تجربة الحكم السعودي كاملة، ولم يخالطها شك في أن بريطانيا حافظت على علاقات متميزة مع بلد ولد من رحم التاريخ ليبقى سامق البناء يتوارث عرشه أبناء أسرة قادرة على حمايته وصيانة سيادته وحفظ مقدراته.
مكتب رئيسة وزراء بريطانيا لا يمنح الألقاب جزافًا، ولا يخلع الثناء اعتباطًا، ولذلك فعندما قال بمناسبة الزيارة إن السعودية هي «القوة الأكبر سياسيًا ودبلوماسيًا واقتصاديًا في الشرق الأوسط»، فإنه يعي كل حرف في هذه العبارة.
لقد استثمرت السعودية في الاقتصاد البريطاني خلال هذه الزيارة نحو 90 مليار دولار أمريكي، وهو مبلغ كافٍ لضخ المزيد من التفاؤل في اقتصاد يعبر نفقًا من المخاوف والتشاؤم منذ تصويت الشعب البريطاني على الخروج من الاتحاد الأوربي. وفي المقابل فإن الزيارة قد جاءت باستثمارات نوعية للاقتصاد السعودي من خلال الترخيص المباشر لشركات بريطانية رائدة للاستثمار في السوق السعودي بمليارات الدولارات.
الأمير ومن ورائه شيخ وقور يدير التجديد والتحول بعناية وبخبرة عقود في الحكم يرمقون مستقبل هذه المنطقة وهم صناع قرار فيه وليس مجرد حكام ينتظرون ما يقرره الأقوياء لبلدهم. المبادئ السعودية، العلاقات الإستراتيجية مع القوتين الرئستين في الغرب بريطانيا وأمريكا، والمال السعودي الضخم الذي يدير مفاصل العديد من المجالات الحيوية في تلك الدولتين يبوئ المملكة اليوم مكانًا على طاولة صنع القرار العالمي. إنها الحكمة السعودية إذا ما قورنت ببلدان أخرى لم تتمكن من اضطراد التنمية ناهيك عن المنافسة على صناعة المستقبل.