د. عمر بن عبدالعزيز المحمود
يمثِّل التعصب للآراء والأفكار إشكاليةً كبرى في عملية الحوار والفهم وتقبُّل الآخرين، ولهذا يعده العلماء والباحثون من أهم عوائق التفكير العلمي الصحيح السليم المنضبط بضوابط تجعل منه سبيلاً إلى بلوغ الحقائق والاكتشافات، حيث يقف التعصب عائقاً أمام نجاح كل تفكير أو حوار يهدف إلى تقارب الآراء، وتحقيق العدل والإنصاف، والوصول إلى الحقيقة التي ينشدها الجميع.
ولأنَّ التعصب من أبرز عوائق التفكير العلمي يقف عنده الدكتور فؤاد زكريا في كتابه (التفكير العلمي)، ويفرد له مساحة خاصة لمعالجته، فيؤكد في تعريفه له على أنه اعتقادٌ باطلٌ بأنَّ المرء يحتكر لنفسه الحقيقة أو الفضيلة، وبأنَّ غيره يفتقر إليها، ومن ثم فإنَّ الآخرين دائماً على خطأ؛ ولهذا فإنَّ التعصب -الذي يتخذ شكل تحمسٍ زائدٍ للرأي الذي يقول به الشخص نفسه أو للعقيدة التي يعتنقها- يتضمَّن بعداً آخر، فهو يمثِّل في الوقت نفسه موقفاً معيناً من الآخرين.
فحين يكون المرء متعصباً فإنه لا يكتفي بأن ينطوي على ذاته وينسب إليها كل الفضائل، بل يلزمه أن يستبعد فضائل الآخرين وأن ينكرها ويهاجمها، بل إنه في حالة التعصب لا يهتدي إلى ذاته ولا يكتشف مزاياه إلا من خلال إنكار مزايا الآخرين، ويبين المؤلف أنَّ هذا هو الفرق بين التعصب والاعتداد بالنفس الذي يعده شعورا مشروعا؛ إذ إنَّ المعتد بنفسه لا يبني تمجيده لنفسه على أنقاض الآخرين، بل قد يعترف لهم بالفضل مع تأكيده لفضله هو أيضا، أما المتعصب فلا يؤكد ذاته إلا من خلال هدم الغير، ولا فارق عنده بين هذه العملية وتلك؛ لأنه يهدم غيره وليس في ذهنه إلا تأكيد ذاته، كما أنه لا يؤكد ذاته إلا مستهدفا الحطَّ من الآخرين.
والإشكالية الكبرى كما يرى زكريا أنَّ المتعصب لا يؤكد ذاته من حيث هو فرد؛ لأنَّ واقع التعصب لا يكمن في اتخاذ مثل هذه المواقف الشخصية، بل يكمن في توحيد الفرد لنفسه مع رأي الجماعة التي ينتمي إليها، وإعلائه هذا الرأي فوق آراء أية جماعة أخرى، فالمتعصب في واقع الأمر -ودون أن يشعر- يمحو شخصيته وفرديته، ويذيب عقله أو وجدانه في الجماعة التي ينتمي إليها، بحيث لا يحس بنفسه إلا من حيث هو جزء من هذه الجماعة، ولو كان يؤكد نفسه بوصفه فرداً له شخصيته المميزة لما أصبح متعصباً.
ويرى أنَّ خطورة التعصب تتمثَّل -من حيث هو عقبة في وجه التفكير العلمي- في أنه يلغي التفكير الحر والقدرة على التساؤل والنقد، ويشجع قيم الخضوع والطاعة والاندماج، وهي قيم قد تصلح في أي مجال ما عدا مجال الفكر، وهذا يؤدي إلى صفة أخرى أساسية في التعصب، وهي أنه ليس موقفا تختاره بنفسك، بل موقف تجد نفسك فيه، أي أنَّ التعصب هو الذي يفرض نفسه على الإنسان، وهو أشبه بالجو الخانق الذي لا نملك مع ذلك إلا أن نتنفسه، وما المرء بالنسبة للتعصب سوى أداة يتخذها لتحقيق هدفه المشؤوم؛ لأنه حين يقع المرء في قبضته لا يصبح شيئا، ولا يسعى من أجل شيء، إلا لكي يلبي نداءه.
ويعلل المؤلف انتشار التعصب الواسع -رغم كل هذا التطور- بأنَّ الإنسان في حاجة ماسة إلى رأي يحتمي به؛ ليعفي نفسه من التفكير في ظله، والتعصب يوفر له ذلك، والواقع أنَّ الحماية هنا متبادلة، فالرأي الذي نتعصَّب له يحمينا؛ لأنه يؤدي إلى نوعٍ من الهدوء والاستقرار النفسي، ويضع حداً لتلك المعركة القلقة التي تنشب في نفوسنا حين نستخدم عقولنا بطريقةٍ نقدية، ولكن من جهة أخرى نضمن الحماية لهذا الرأي ذاته عن طريق رفض كل رأي مخالف ومهاجمته بعنف، والسعي إلى تصفيته.
ويؤكد المؤلف أنَّ الواقع يخبرنا أنَّ هذه حماية خادعة مضللة، فهي من نفس نوع الحماية التي يكفلها لنا الخمر أو المخدر؛ لأنها ترتكز أساسا على تخدير الفكر وإبطاله، ولأنها تضع أمامنا صورة باطلة للواقع لا ترتكز على دليل أو منطق، بل تستمد قوتها كلها من تحيزنا لها بلا تفكير.