د. إبراهيم بن محمد الشتوي
سأنطلق من القضية التي ليس لها حل في التفكير النقدي، وقبله الفلسفي، وهي ما كان يسميه القدماء بقضية اللفظ والمعنى، ويسميه المعاصرون بالعلاقة بين المحتوى والشكل. تمحور سؤال الأقدمين حول الموازنة بينهما في الأهمية، والقيمة ففي الوقت الذي مال فيه بعضهم إلى أن الشرف للفظ، وأن المعاني مطروحة في الطريق، رأى آخرون أن المجد للمعاني، وإن الألفاظ تأتي تبع، وأنها لباس ينبغي أن تصاغ على قدود المعاني.
أما سؤال المعاصرين فقد نظر إلى القضية من زاوية أخرى، فبحث في قيمة الشكل في مدار عملية النقد سواء على المستوى الجمالي أو الدلالي، كما بحث فيما ينبغي التركيز عليه في الدرس النقدي.
المشكلة أن العلاقة بينهما تدور على ألا وجود لأحدهما إلا بوجود الآخر، فالشكل لا يأخذ قيمته إلا من خلال دلالاته على المعنى، والمعنى لا يستمد وجوده إلا من الشكل، فإذا دل الشكل على معنى من المعاني اكتسب قيمته من جهة، ولا يتحقق المعنى إلا من خلال دلالة الشكل عليه.
وتأتي النظرية سواء في الشكل أو المعنى لتثبت الطريقة التي ارتبط بها المعنى بالشكل بتلك الحالة والصورة، حتى يتمكن اللاحقون من القياس عليها، ومن استنباط ما يشبهه في الحالات المماثلة. ومن خلال هذا الارتباط والقياس تصبح النظرية ثابتة يقيس عليها اللاحقون ما قاله السابقون، ويسعون لأن يجدوا ما وجدوا.
على أن المعاني غير محدودة، ولا متناهية على طريقة أبي عثمان الجاحظ فهي مبسوطة إلى غير غاية، وممتدة إلى غير نهاية، وهذا اللا تناهي، والسعة يأتي على مستوى العمق الذي يبحث فيه الشكل، وارتباطه به بين أن يكون معنى رئيسًا ثابتًا لا خلاف عليه أو أن يكون إضافيًا غير ثابت، وقد قسم البلاغيون القدماء المعنى إلى قسمين من حيث ظهوره وارتباطه بالدال، أحدهما: الفائدة، والآخر لازم الفائدة، وسمى المعاصرون أول ما يقع في ذهن السامع من اللفظ بالمعنى، وسمى ما يتولد من هذا المعنى من معان بمعنى المعنى. ولازم الفائدة أو معنى المعنى لا يحده حد، فهو يتبدل بتبدل المتحدث، والسامع، وطريقة قوله، والظروف المحيطة به، فهو لا يرتبط بالشكل وحده، بحيث يصبح هو الباعث عليه، ويرتبط به ارتباطا شرطيًا، كما أن المعنى لا يرتبط بهذا الشكل بحيث لا يرد إلا معه، وإنما قد يرد المعنى ويتخلف الشكل، وقد يرد الشكل ويتخلف المعنى.
ويمكن أن نضرب على ذلك مثلا على مستوى اللفظ بظاهرة «الترادف» التي يدل فيها مكونيان شكليان على معنى واحد «كالقبر» و»الجدث» و»الرجم» التي تدل كلها على معنى «المكان المدفون به إنسان ميت»، فقد تغيَّر الشكل ولكن المعنى واحد، وأما الآخر فيمكن أن نضرب له مثلاً بالتورية، حيث يأتي شكل واحد ليدل على معنيين مختلفين، أو ما يسمى بالمشترك اللغوي وربما الاستعارة، والجناس التام. وهي طرائق بالتعبير تعتمد على الاتحاد في الشكل مع الاختلاف بالمعنى، فمن التورية المشهورة قول الشاعر:
جودوا لنسجع بالمديـ
ـح على علاكم سرمدا
فالطير أحسن ما تغر
د عندما يقع الندى
فكلمة «الندى» هنا لها معنيان: الأول: هو ما يصحب الجو من الرطوبة وقت السحر، والمعنى الثاني هو الجود والكرم.
هذا على مستوى اللفظ، وفيما اعتبره اللغويون والبلاغيون مطردًا في علومهم، أما على مستوى التراكيب فإن الحديث يطول والشواهد تتعدد. كما أنه على مستوى العمق والسطحية، في حين أن الشكل قد يدل على أكثر من معنى في مستوى واحد وهو المستوى الأول وذلك فيما يسميه النحويون بتعدد الوجوه الإعرابية، وغيره مما يطول شرحه، والحديث عنه.
فإذا عدنا إلى النظرية مرة أخرى، وجدنا فكرتها تقوم على تعميم النمط، فما حصل في دراسة واحدة، ووجده قارئ معين يكون عامًا في الدراسات الأخرى، وفي النصوص المشابهة، على الرغم أننا نعلم أن ما قد ظهر لأحد القراء قد لا يظهر لقارئ آخر، وما وجده متأمل ساعة النظر قد لا يبدو لآخر بناء على اختلاف زمانه، ومكانه، ونوع إحساسه كما اختلاف طرائق إحساسه باللغة، وهذا يتطلب من القارئ الطارئ أن يتبنى الحالات الشعورية والموضوعية التي عاشها القارئ الأول حتى يحس بما أحس به، ويجد ما يجد، لتصبح النصوص الجديدة حاملة لنفس المعاني والدلالات التي حملتها الأولى، وهو ما يعني أن القارئ الجديد لا يستصحب الأسئلة الأولى وحسب، وإنما يستصحب أيضًا القوالب السابقة التي صبت بها الإجابة، ليخرج بالإجابة عينها، ما يتطلب أن يحاكي الظروف التي ولدت المعاني الأولى، وهذا يصيب الدرس النقدي بالرتابة، والنمطية، وربما انعدام القيمة حين يجعل لنص تكراراً لنص سابق.