سهام القحطاني
لا يمكن فصل الاقتصاد عن السياسة في تشكيل أي صراع بين الشعوب؛ لأن من يملك الهيمنة الاقتصادية يملك الهيمنة السياسية، فالاقتصاد ضامن لسلطة مستدامة، ولعل مقولة السيد أدولف بيرل مستشار الرئيس الأمريكي فرانكلين أن من يملك « السيطرة على موارد الطاقة الهائلة في الشرق الأوسط سيفضي بصورة أساسية إلى السيطرة على العالم» دليل على أهمية و قيمة الاقتصاد في صناعة القوى العظمى. والصراع الاقتصادي تختلف أقنعته لكن غايته تظل ثابتة، ولذا لا يمكن إخراج الاقتصاد من أي صراعات سياسية أو تحالفات سياسية أو تغيير سياسي. في عام 1987م ذكر وزير الطاقة الأمريكي الأسبق جون هارنجتون» أن العراق يعوم على بحيرة من النفط، وفي هذه الحالة إذا استطاعت الولايات المتحدة السيطرة على العراق ونفطه من خلال الغزو و وضع حكومة عميلة هناك ،فإنها يمكن أن تتحكم في حجم الإنتاج العالمي.»، ونحن نعلم ما حدث من تغييرات سياسية بقيادة أمريكا من أجل استغلال نفط العراق، فقد حوّلت أمريكا العراق من أجل تحقيق ذلك الاستغلال الاقتصادي كما نراه اليوم إلى بركة من الدماء تتخبط بها الفتنة الطائفية والإرهاب.
و عندما نفتش في تاريخ بريطانيا الاستعماري نجد أن هناك هدفا واحدا من ذلك الاستعمار نصل إليه دائما وهو التحكم في الممرات التجارية وفتح أسواق جديدة لبضائعها واحتكار أنواع خاصة من التجارات.
في أي صراع سياسي أو تغيير سياسي «فتش عن الاقتصاد».
وإذا عدنا إلى مسألة تحويل فلسطين إلى وطن قومي لليهود فإن أصل الفكرة تعود إلى بعد استعماري اقتصادي،كان يحركه الصراع بين نابليون و طموحه السياسي والاستعمار الإنجليزي.
فقد بدأت فكرة توطين اليهود في فلسطين أول الأمر في إطار اقتصادي و ليس في إطار صهيوني، وكان ذلك عام 1799م قبل الحملة الفرنسية على مصر، إذ دعا نابليون اليهود في الشتات للتجمّع في فلسطين وإعادة بناء هيكل سليمان، باعتبارهم الورثة الشرعيين لدولة إسرائيل القديمة.
وهذه الدعوة لم تكن من أجل عيون اليهود، بل من أجل إرساء و استقرار المشروع الفرنسي الاستعماري، إذ إن إنشاء دولة يهودية في فلسطين ستكون مراقبا فرنسيا للسيطرة على مصر و طرق المواصلات التجارية إلى الشرق، بفضل الموقع الجغرافي الذي تتميز به فلسطين ،فهي تقع وسط العالم العربي و تعتبر البوابة التي تربط بين آسيا و إفريقيا.
وحتى وعد بلفور لليهود بإعطائهم فلسطين هو وعد يقوم على أساس اقتصادي هذا الأساس الذي سعت الصحف الإنجليزية بعد الوعد لتفسيره.
ففي عام 1917م رأت الصحف البريطانية أن الدفاع عن قناة السويس يتم على أفضل وجه بإقامة شعب في فلسطين ملتصق بنا، وإعادة اليهود إلى فلسطين تحت الرعاية البريطانية يضمن ذلك. وبذلك ظل وسيظل السبب الاقتصادي هو محرك حيوي من محركات الصراع بين الشعوب، لكنه في كل مرة يرتدي قناعا مختلفا.
فالصراع الاقتصادي اليوم أصبح يتحرك في مسار تكتلات الشركات متعددة الجنسيات، والمؤسسات العالمية الضخمة، التي أصبحت تتحكم في مسارات القوى العظمى وتتدخل في قراراتها السياسية، وهي تملك كما يقول نعوم تشومسكي في كتابه من يحكم العالم «قوة ضخمة و نفوذا هائلا ليس فقط على صعيد الساحة الدولية، إنما أيضا ضمن دولها الأم».
كما أن الكارتلات المصرفية أصبحت اليوم محركا مهما للصراع و التغيير السياسيين. هذه الأهمية التي دفعت الرئيس الأمريكي «توماس جيفرسون» إلى القول «أعتقد أن المؤسسات المصرفية أشد خطرا على حريتنا من الجيوش المدربة و المسلحة»،لأنها تتحكم في القوى العالمية وقراراتها، ففي أمريكا والغرب «الاقتصاد أولا ثم السياسة». و يعتبر «الاقتراض أو الدين» من أقبح وجوه الاقتصاد العالمي لسياسات الدول؛ لأنه استعمار لسياسات الدول من الباطن، وهو غالبا ما يستخدم -الاقتراض- من أجل كما يقول هنري ماكوو صاحب كتاب «المتنورون» السيطرة على الشعوب والاستيلاء على ممتلكاتهم، ومن هنا يظهر مصاصو الدماء الذين يسيطرون على العالم و يكرسون أنفسهم للاستيلاء على الثورة بشراهة واستعباد البشر». وفي عام 1991م قال الكاتب جاك أتالي في كتابه ملامح المستقبل، إن العالم سوف يتبدل في السنوات العشر القادمة، والتبدل يكمن في تغيير مصدر قوى الصراع التي سوف يدور حول النظام التجاري أو عولمة الاقتصاد. وتعتبر أمريكا نموذجا إجرائيا لتلك المقولة فحربها سواء الواقعية أو الاستباقية و تفكيكها للأنظمة السياسية غالبا ما تتحرك تحت ذريعة «حماية المصالح الأمريكية» وهي ذات الذريعة منذ نشأت أمريكا، تلك الذريعة-الاقتصاد و السياسة- التي دفعت أمريكا للمشاركة في الحرب العالمية؛ أما الاقتصادي؛ فهو تعرض السفن والناقلات الأمريكية التجارية للغرق أثناء حملها للسلع إلى إنجلترا، والسياسي هو الانتقام من ألمانيا التي وعدت المكسيك بعد انتصارها في الحرب أن تساعدها في استرداد أراضيها من حكومة الولايات المتحدة.
إن العولمة الاقتصادية اليوم تتحكم في السيادة السياسية للدول سواء المتقدمة أو النامية.
فرأس المال هو الذي يُحرك سياسة أمريكا والغرب، لأنه هو من يشارك في وصول أي رئيس لمنصب الرئاسة، وبذلك فكل القرارات السياسية لابد أن تنصب في نهاية المطاف في مصلحة زيادة رأسمال الاقتصاد و توسيع مساحاته. وفي الدول النامية فالعولمة الاقتصادية تهيمن على سيادتها السياسية من خلال أمرين «صندوق النقد الدولي» الذي يتحكم في الاستراتيجيات السياسية للدول و يجلب لها الدمار، فهو عادة ما يسهم في توسيع طبقة الفقراء وتفشي التقشف وهما يسهمان نهاية الأمر في اندلاع الثورات الاجتماعية ثم سقوط حكومات تلك الدول كما حدث في دول الربيع العربي و في اليونان.
والأمر الثاني هي «الشركات العابرة للقارات» التي تتحكم في قوانين الحكومات حتى تتوافق مع مصالحها، وتكون مصدر صراع سياسي سياسي في حالة تهديد مصالحها في الدولة المستضيفة، لأن مبدأها دائما «عض قلبي و لا تعض رغيفي».