كما يقال:- الناس تستحضر ردة الفعل وتنسى الفعل ذاته. والأخير ينشطر مكونًا العديد من ردود الأفعال، وتصبح هذه الردود نواة لأفعال وأفعال وأفعال.
كان ذلك محور حديث صاحبنا مع معرفة قديم يتقاسم وإياه بعض الرؤى والمفاهيم. صاحبنا له تاريخ حافل،
ما زال البعض يرصده ويعيد إنتاجه سبة ومظلومية وتاريخًا يُجتر لملء الأفواه قبل أن يصبح مادة تسوق للضعفاء والدهماء من الناس. الأعلى صوتًا والأكثر نفيرًا في المجتمعات الوظيفية يملكون إعلامًا يسوق لذواتهم المعطلة عن اللحاق بالآخرين، الذين يبزونهم حضورًا وإمكانات. هؤلاء يجتزئون الأحداث في ردة فعل لضعيف، هم من أكرهه عليها.. لفعل هم أصلاً مَن صنعه ودبره، تكتلاً وحمية وظلمًا. هذا الاجتزاء يستخدمونه عادة لمصادرة إنسان دافع عن نفسه ضد ظلم وخنق وطغيان.
هؤلاء (الأعلى صوتًا والأكثر نفيرًا) يتوجسون من ردة الفعل وصاحبها؛ فتظل الضحية مثار حديثهم وشكهم وريبتهم.. محورهم الذي يجمعهم، والشرعية التي تزيد أواصر ترابطهم.
في حقيقتهم، هم إلى السطحية أقرب من كل شيء.. العمق لديهم ما وافق الهوى، يرون السماء بزرقتها وصفائها، ومع كثرة تكرار المشهد يصبح راسخًا في وجدانهم وضمائرهم أنهم كواكبها الدرية ونجومها المضيئة.. فالفضيلة تبدأ بهم، وتنتهي إليهم، والآخرون مجرد أتباع يدورون في فلكهم، يضبطون توقيتهم على إشراقاتهم وتجلياتهم، حتى غروبهم يظل في أفقهم الضيق موعد أفول ونهاية للآخرين.
ماذا عن صاحبنا؟ منذ قرابة العقد وهو معقود بنواصي ألسنتهم، مادة إعلامية تلوكها قلوبهم وصدورهم قبل الألسن، تُرصد وتُحلل، تُباع وتُشترى في سوق الغيبة والنميمة والوشاية.. إن تجلى أوجعهم، وإن أخفاه الزمن وحكمه فنبش سيرته واستحضار سريرته واجب تمليه المصلحة العامة ومصلحة البقاء!
كان إقصاؤه ثمن بقاء، ومهر ريادة، وما زال بغضه إعلان ولاء وبراءة، به تؤرخ الأحداث وتستذكر، وبه تؤرشف وتستحضر.. ولإخفاء عيوب التاريخ عند البعض يُجعل عنوانًا ليشغل الآخرين، وليكون في نظر الباقين شيطانًا رجيمًا؛ مَن والاه يُنكر ويأثم ويُستحقر.
في يوم من أيام عملهم دق ناقوس المكان، وأعلن المنادي أن هناك اجتماعًا مصغرًا، وأن على الجميع الحضور لمدارسة أمر جد خطير. بُدأت الجلسة باستجواب وجه جديد، ماذا تعرف عن فلان؟ وما صلتك به؟ صعق المسكين من محكمة التفتيش السريعة التي عقدت له، وصعق صاحبنا بعد أن علم أنه ما زال في أدبيات فهمهم وخطابهم وزرًا وخطيئة ينبغي درؤها والإعراض عنها.
وبعد هذه السنين، وبعد أن توالت المحن والنِّحَل في الجانبَين يبدو أن الجميع والمكان والتاريخ على موعد مع نهاية لهذه القصة، نهاية تعيد الأمور إلى نصابها، وتبعث الحقيقة من مهادها، ويظهر عوار الذين ظلموا وكذبوا وتجاوزوا على الآخرين بدافع من غيرة أو حسد أو فوقية.
أن تكون أكثر نفيرًا وأعلى صوتًا فلا يعني ذلك أنك الأقوى والأجدر والأفضل، بل لأنك وجدت أناسًا أعاروك عقولهم لتملأها بضغائنك وأحقادك.. وهؤلاء ميئوس منهم؛ كونهم اختاروا التبعية لتكون وسيلتهم للبقاء والعيش، ولكن هناك آخرين يعتزون بإنسانيتهم؛ كون ربهم كرّمهم وكملهم بالعقل والحرية. وهذا يقتضي منهم عدم السير وراء كل ناعق نزق كذاب، قسمه من الحقيقة اسمها، أما جوهرها فيظل عصيًّا عليه؛ كون تركيبته الشيطانية تقوده إلى الجحود والتجبر، وهذا كان فعل الشيطان عندما أمره الله بالسجود لآدم فعصى وتكبر، ومع ذلك حقق الله له إحدى أهم أمانيه أن يستمر في الكذب والإغواء والتدليس.. فهل معنى بقائه هذا وكثرة كذبه أنه على حق؟ أم إنه إلى زوال ونهاية، يُصغر فيها ويذل ويخذل؟
- علي المطوع