مدخل:
... عبر (190 صفحة) تأخذك أحداث الرواية الموسومة بـ «العودة إلى قُبَالَة» لصاحبها محمد بن ناجي آل سعد، والصادرة حديثاً 1439هـ/ 2017م – إلى غياهب الفانتازيا، وفذلكات الرواة، وميادين الحكايات الخرافية الممعنة في الغموض المقصدي، بدءاً من شخصياتها وأحداثها، ومروراً بفضاءاتها المكانية والزمانية والسردية، وانتهاءً بمآلاتها النَّصيَّة.
***
(2) و»قبالة» – كما وصفتها الرواية – جزيرة ذات جو معتدل تتعامل بالريال الفرنسي – وهي عملة قديمة (لدى أهل جنوب الجزيرة العربية/ اليمن – نجران – جازان) – وتحتضن حي الشاطئ، والميناء، وحي السبيل، فتحت فيها مدرسة، وربطت بجسر مع المنطقة الكبرى، وحولها غابة، وفيها جبال من الناحية الجنوبية الغربية...
بهكذا صورة تتشكل البيئة المكانية/ السردية التي تحتضن أحداث هذه القصة، وهي بهذا تمثل أحد الأسس الإبداعية التي تبنى عليها هذه الرواية خاصة أو السرد بشكل عام. فالمكان، أو البيئة المكانية أحد مكونـات النَّـص السردي. وينـجــح المؤلـف إذا خلـق عالـماً - مكانياً – وشحنه بكثير من الوصوفات والجماليات، وشكله بمزيد من الحوادث والعقد السردية، وهو ما يتجلى بوضوح في هذا العمل الروائي، فقد خلق المؤلف أو الراوي العليم بيئة مكانية سردية تمور بعوالم الرواية وفضاءاتها وشخوصها وأحداثها.
فمن جانب نرى (قبالة) الجزيرة وما فيها من أحياء وجبال وأماكن فرعية. ثم نرى (مدافن الشرق) المكان الثاني الذي هاجر إليه أحد أبطال الرواية (أيوب) وما فيه من فضاءات تدل على إحدى المناطق الصناعية/ البترولية حيث (الخواجات) و(الكامب) و(العمال).
ثم نقف على (الجزيرة المجاورة) التي فيها أحد الرجال الضليعين في الرقية والمعالجة.
وبعدها نجد مدينة (الوديعة) التي تضم مستشفى راقياً ووحيداً من نوعه، وهي أقرب المناطق إلى (قبالة). ثم نصل إلى (مدينة أخرى) - لم يسمها الراوي العليم – أكمل فيها فراج دراسته، وانتقاله إلى (مدينة أخرى) لم تسم أيضاً. ثم نجد (العاصمة) التي لم يسمها الراوي العليم التي انتقل إليها للعمل، ثم العودة إلى المكان الأساس/ قبالة!!
هذه العوالم والمعالم المكانية تجسد الحس الروائي لدى كاتبنا وأنه يدرك القيمة السردية (للمكان) وما يمثله من بيئة حاضنة للأحداث والأشخاص والبطولات.
والجميل هنا اسم هذا المكان الرئيس: (قُبَالَة) الذي يوحي بكثير من الدلالات التي قد تفضي بعضها إلى المعنى المقصود.. وبذلك يتحول المكان من سردي إلى رمزي يشي بدلالات إيحائية وضمنية يصنفها القارئ كيف يشاء لأنها تتخذ رمزيتها من القبول والمقبولية وقبالة الشيء/ أوله. والقبلة/ المركز... إلى غير ذلك من الإيحاءات الرمزية، والدلالات المتشعبة التي سنفصل الحديث عنها في آخر هذه الورقة النقدية.
***
(3) ويرتبط بالمكان - فنياً - الزمان إذ هو عنصر مهم في العمل السردي – رواية كانت أو قصة – وهذه الرواية التي بين أيدينا تتعامل مع زمنين واضحين فهناك الزمن الفلكي أو ما يسميه النقاد بالزمن الواقعي التقليدي = اليوم – التاريخ – الشهر – الليل – النهار... إلخ. فمنذ البداية نجد الراوي يصرح بالزمن الفلكي: الوقت عصراً – قبل غروب الشمس – أيام ديسمبر من عام 1960م – هذا المساء – صلاة المغرب والعشاء.
وهناك الزمن السردي أو النفسي وهو الذي يتبدى من الصياغات اللغوية والأسلوبية على لسان الراوي العليم، وهذا الزمن يتراوح بين الماضوي الاستذكاري/ الاسترجاعي، أو الزمن المستقبلي/ الماورائي/ البعدي، وفي الرواية نجد المروعي يبشر بالمولود فراج قائلاً: (سترزق بولد اسمه فراج) و(سيكون صالحاً) (السفينة التي غرقت في المضيق بالأمس). كما نجد العودة بالذاكرة إلى الوراء/ الماضي فيتكون الزمن الاسترجاعي من مثل (أنسيتم يوم أخذ بيده وهو يروي الزرع)، (كنت جالساً لوحدي وإذا بعيني تغفو فكأنني في حلم)، (كان والد فراج يستعيد ذكرياته).
والجميل هنا في هذه (الزمانية السردية) أنها اتكأت على زمن حقيقي – أحد أيام ديسمبر 1960م – في بداية الرواية، والشهر العاشر في نهاية الرواية وبينهما (خمسون عاماً) عمر البطل فراج ويكون الزمن المضمر هو العام 2007م (زمن صدور أو كتابة الرواية). وهذا يعني أن الزمن السردي في الرواية يتراوح بين الزمن الواقعي/ الفلكي/ الحقيقي، والزمن النفسي/ السردي!!
وبذلك يتنامى الزمن السردي في الرواية بشكل جمالي وفي هذا دلالة على امتلاك الكاتب/ المؤلف لفنيات وتقنيات الفن الروائي خاصة والسردي عموماً.
***
(4) وتظل الشخصيات أحد محاور العمل السردي/ الروائي، وأحد أبرز عناصره، إذ يمثل شخصية البطل.. والشخوص المساندة/ الثانوية ذات وظيفة إيحائية وحوار ية وناهضة بالمتن الروائي حدثاً وحبكة وخاتمة.
وتنجح الرواية في ذهن القارئ والمتلقي والناقد كلما كانت الشخصيات ذات سمات ديناميكية، قادرة على تدوير الصراع والحركة التحاورية داخل السرد/ الرواية. وكلما كانت ذات حمولات دافعة ومتنامية في طاقات خلاقة، وهي بذلك تكون وسيلة الروائي للتعبير عن رؤيته التي يهدف إلى نشرها عبر الرواية، كما هي مفتاح العمل الروائي الذي يستطيع القارئ مثاقفة النَّص والتحاور معه من خلال هذه الشخصيات الرئيسة أو الثانوية.
وفي روايتنا هذه (العودة إلى قبالة) تتجلى الكثير من الشخصيات التي تتناوب البطولة في شكل شخصية رئيسة، أو شخصية ثانوية، شخصية فاعلة أو شخصية ساكنة، مع تحديد الدور والحدث والحكاية المرتبطة بكل نوع من هذه الشخصيات.
ومنذ البدء تتحرك الشخصيات عبر ثلاثية الزوج/ الوالد أيوب، والزوجة/ الأم فضل، والابن فراج، ثم تتنامى الرواية وشخصياتها لنجد الشيخ المروعي، والشيخ عبدالرحمن، والزهراء (أم أيوب) وزود أم فضل. ثم تتنامى الرواية وشخصياتها لنجد جميلة (أخت أيوب)، وهداية (زوجة فراج) ونيفين (ابنة فراج). ثم نجد رقاص (هائض) و(غدران) أعداء فراج وأيوب، ثم نجد ابن فارق/ الراقي، والشيخ فراج الكبير، والسير جون والصديق الكبير، وهراج... وغيرهم من الشخصيات المساندة.
ومع كل هذه الشخصيات تبدو القدرة الروائية من خلال إدارة الحوار والصراعات داخل العمل الروائي. كما يقف الناقد عند جملة من الأبعاد النفسية والاجتماعية والانفعالية والجسمية كمظاهر ومواصفات لأولئك الشخصيات، سواء الرئيسة أو الثانوية أو المساندة. وهذا يعطي دلالات على أن اختيار الروائي لشخوص روايته على قدر كبير من الوعي بدور الشخصية في تكامل العمل وجديته وحيويته عبر رؤية مباشرة أو تخيلية.
ولعل المؤلف نجح في تشكيل شخصيتين من شخوصه الكثر في الرواية ليتقاسما البطولة وهما: الأب (أيوب)، والابن (فراج) ثم تأتي الشخصيات المساندة والثانوية.
ويتجلى (أيوب) كبطل أولي للرواية ويأخذ مساحة كبيرة، حتى يأتي المولود ويكبر وتبدأ أدواره البطولية فيتجلى (فراج) ليأخذ مكانة البطل في الرواية حيث يصوره لنا (الراوي العليم) على أنه مرن وقادر على التغيير وإدارة التحديات ومواجهة المشكلات ويبرز لنا الأدوار المصنوعة للأشخاص المشاركين في هذا العمل على أنهم مساندون وفاعلون وحيويون ولا تكتمل الرواية إلا بهم!!
***
(5) تعد اللغة بجميع مستوياتها القولية (الماضوية والآنية والمستقبلية) هي العمود الفقري للعمل الروائي والسردي عموماً. فبدونها لا يمكن أن يتحقق العمل، هي صنع الحكاية وهي الفضاء المحتوي لكل ما سبق من عناصر، ولولاها لأصبحت تلك العناصر جزراً متباعدة لا يجمعها جامع!!
اللغة/ الحكي/ السرد: هي قدرة المبدع/ الكاتب/ المؤلف/ الروائي على ربط الجزئيات، والفسيفساء والأفكار والأحداث في رؤية لغوية متكاملة يسمونها (الرواية)، هناك تتبدى سحريتها وقدرتها على نقل الأفكار والأحداث إلى الورق ثم إلى العين البصيرة/ القارئة.
وفي هذا العمل الروائي تأخذنا اللغة إلى مسارب الضوء وآفاق المعرفة الكلية لتجمع إنزيمات العمل في رموزه ودلالاته ومراميه وغاياته، فنجد الأشخاص يتحدثون ويتحاورون، نسمع صدى حوارتهم. ونجد الأحداث تتحرك والصور تتنامى، والحس البلاغي يهيمن، نجد الماضي.. استذكاراً واسترجاعاً، ونجد الآني والحاضر عبر التقارير الواقعية في زمنها الحاضر، ونجد المستقبل والبناء اللغوي عبر (سوف) و(س) و(نتوقع) و(سيكون) وغيرها من الأزمنة المستقبلية، يصوغها الروائي بمقدرة لغوية فاتنة.
في هذه اللغة يبهجنا حديث البطل عن نفسه، ويبهجنا حديث (الراوي العليم) عن شخصياته، كما يبهجنا تلك الحوارية الناضجة بين الناس الذين يشكلون عماد العمل الروائي!!
ومن خلال هذه اللغة تبدو جماليات النَّص الروائي وتناميه من البداية إلى العقدة إلى الحل، وهذه هي ثلاثية العمل الروائي الناجح. وهنا سنقف مع جمالية الذروة في هذا العمل حيث تستوقفنا تداعيات الرواية في مرحلة العقدة وكيف يصوغها الروائي لتستولي على ذهن القارئ وتحدد تعامله الإيجابي مع الرواية. ففي الصفحات من (66-70) يمكن الوقوف عند (الذروة) التي أوصلنا إليها الروائي عبر حكايته ولغته ذات الجمل القصيرة، والأفعال المتسارعة، والأحداث المستمرة، حتى لكأن القارئ يلاحق أنفاسه مع درامية المواقف، ويعيش حالات الحزن والأحلام والأفراح مع أبطال المشهد.
في تلك (الذروة) أو (العقدة) يصف لنا الراوي حالة الأم (فضل) في مخاضها انتظاراً لمولودها (فراج) ووالده (أيوب) في غيبوبته التي سيفيق منها مع صرخة المولود. ويصف لنا وقت الولادة وخوف الجدة على الوليد وأخذه إلى غرفة في الدور الأسفل، ويصف لنا الحلم الكابوس الذي عاشته (الأم) - وهي في نفاسها - عن زوجها (أيوب) وصراعه مع السباع، ويصف لنا اختفاء المولود (فراج) وحالة الحزن على الجميع لفقدان المولود، وخروجهم بحثاً عنه ولقائهم بالشيخ (فراج الكبير) الذي أنقذ المولود من (الكلب الأسود) الذي اختطفه، ويصف لقاء الأم بوليدها وحالة الفرح الممزوج بالبكاء!!
هذه الأحداث الدرامية المتسارعة في لغتها الفنية الباذخة تشكل لنا قمة الإثارة، قمة العقدة، وقمة الذروة في العمل الروائي مما يمكن تشكيله عبر الخطاطة التالية:
المتن الروائي
(6) يلعب (الراوي) في السرديات القصصية أو الروائية، دوراً بالغ الأهمية، فهو المسيطر على حركة اللغة المنتجة للعمل السردي، وهو الأكثر وعياً للتجليات أوالفضاءات المؤطرة لهذا العمل أو ذاك، وباختصار هو الموجد لكل مكونات السرد/ قصة أو رواية.
وفي هذه الرواية التي بين أيدينا تبدو كثيراً من أنماط الراوي: فهذا الراوي العليم، وهذا الراوي المشارك، وهذا الراوي الصريح، ويهيمن على هؤلاء الرواة الثلاثة الراوي/ المؤلف.
ولكل من هؤلاء الرواة الأربعة دورهم التخييلي والواقعي الذي تنبئ عنها مسارات ومدارات الروايـة. ولكن أهمها – على الإطلاق – هو الراوي العـليم الذي يعــرف كل شيء – في الرواية – المكان والزمان والأحداث الماضية والمستقبلية. يتدخل بالتعليق والوصف الخارجي والداخلي، يحرك الأحداث ويؤطرها في سياقاتها النصية، يكشف الذوات وانكساراتها ونجاحاتها وتشظياتها، يجعلك – كقارئ وناقد – تتماهى مع الرواية في كل أبعادها الرؤيوية من خلال لغتها وأسلوبها.
انظر إليه وهو يكشف لنا عالماً من عوالم أيوب والد البطل في الرواية «مضت ليلة كاملة على أيوب وهو في غيبوبته. وفي ذات المكان كانت السباع تحوم حوله وتشمه ثم تنصرف عنه، في ذات اللحظة... كانت أمه تصرخ بدعاء مختلط بالبكاء بأن يحرسه الله من السباع ومن كل شيء...» ص 57-58 من الرواية.
هنا يتبدى دور الراوي العليم/ الخبير بمآلات النَّص الروائي وتحريك الأحداث والإنباء عن واقع أحد شخوص الرواية ضمن أسلوب وصفي، وتعليق على الموقف، وتدخلاً في الحبكة!!
وانظر إليه وهو يسرد أحداث البطل فراج ويبين حالته المزاجية «رغم عيشه في مدينة جميلة، يتعلم فيها بسعة ودعة لكنه لا يكف عن الحنين إلى قبالة، يحدوه الأمل، وتتوقد بين أضلاعه ألسنة لهب الشوق، مما يزيده إصراراً على أنه عائد لا محالة، متمثلاً قول الشاعر مهذل الصقور: «أنا كالقيامة ذات يوم آت» ممنياً نفسه بالعودة إليها ذات يوم» ص 180-181.
كل هذه المقتبسات تدلنا على دور (الراوي العليم) في البناء الدرامي والأسلوبي للرواية، فهو يطل على الأحداث من علٍ يمكنه من استشراف الآفاق الروائية التي يجب أن تسير فيها، ويصف للقارئ ما يحصل أو حصل من حكايات، يحرك الشخوص والزمان كيف يشاء، ويحدد الفضاءات المكانية ويرسمها كما تحتاجه الرواية، ثم يقوم بتجسيد الأحداث وتأطيرها وتقديمها للمتلقي/ القارئ في لغة تستبطن كل حقولها النَّحوية، والأسلوبية، واللغوية!!
***
(7) ولعلنا نختم هذه المداخلة برؤية جمالية لبعض طروحات الرواية ومعالمها الإبستمولوجية، ونقف أولاً عند العنوان كعتبة نصيَّة تتجلى مظاهرها في جميع مسارات الرواية. وقد اختار المؤلف جملة «العودة إلى قبالة» ومن أجل مركزية (قُبَالَة) في النص المسرود وأنها هي المكان المعني بأحداث وشخوص وزمان الرواية فقد اختار المصمم والمؤلف أن تكون – في العنوان المكتوب على الغلاف – بالبنط العريض المحبَّر والمطوق بإطار أبيض وبشكل مائل في سطر مستقل، أما جملة (العودة إلى) فقد جعلها بالبنط العادي وفي سطر أعلاه وكل ذلك بدون حركات إعرابية حتى تتاح للقارئ إنتاج الدلالة وتفتيق العنوان إمعاناً في اللَّغة القرائية والمعرفية.
ولكن المؤلف والمصمم لم يستمرا في هذه اللعبة الشكلية في صفحة العنوان الداخلي، بل تجاوزا هذه الحرية المعطاة للقارئ، فقيدوه بالقراءة التي يريدانها فجاءت الكتابة على سطر واحد، وشُكِّلت جملة العنوان بحركاتها الإعرابية حتى يتحدد العنوان بشكله ورسمه المقصود من المؤلف.
وكما قلنا في بداية هذه الورقة فـ «قُبَالَة» تتنامى دلالاتها في أفق القراءة الناقدة إلى مكان قِبْلِي يُتَّجَه إليه أو المركز أو أول الشيء أو المقبول والمرتجى... إلخ هذه الدلالات والإيحاءات.
كما أن جملة (العودة إلى) تزداد تعريفاً وتوضيحاً من خلال مسارات أحد أبطال الرواية خروجاً من (قبالة) وعودة إليها. فنجده – داخل المتن الروائي – وفي كل تمرحلاته السردية مرتبط بها لاينفك عنها ذهاباً وعودة!! فقد خرج منها مهاجراً إلى (مدافن الشرق) للعمل وطلب الرزق ولكنه بعد ستة أشهر حمل نفسه وأغراضه عائداً إلى (قبالة) ص ص 27-47. ثم خرج منها إلى (جزيرة مجاورة) للبحث عن علاج لابنه (فراج) ثم عاد إليها ص ص 94-100، ثم خرج منها مريضاً ومصاباً بسم ثعبان أسود لدغه وهو في نزهة برية منقولاً إلى مستشفى (الوديعة) وهي مدينة قريبة من (قبالة) وبعد علاجه عاد إليها ص ص 120-126. وكذلك خروجه منها للدراسة في (مدينة أخرى) ثم العمل ثم العودة إلى (قبالة) ص ص 130-140. ثم مغادرته منها إلى (العاصمة) للعمل لإكمال الدراسة ولكنه مرَّ بظروف عصيبة فاضطر للرجوع إلى (قبالة) ص ص 140-146. ثم تنقلاته من مدينة إلى مدينة، ووظائفه المتعددة ثم العودة إلى جزيرته للاطمئنان على أهله ص ص 147-148. وأخيراً العودة من مدينة العمل والمحاضرات والندوات إلى (قبالة) وهو جسد بلا روح (ميِّت) حسب وصيته لصديقه (هراج) ص ص 185-190.
وبذلك تتضح دلالة العنوان (العودة إلى قبالة) من خلال هذا المسار الروائي والتمرحلات السردية لبطلي الرواية الأب (أيوب) ثم الابن (فراج).
ثم نقف (ثانياً) مع بعض المسميات المكانية والشخوصية ودلالاتها في المتن الروائي مما يجعلنا أمام لغة نابضة بالرمزية ومتوشحة بالدلالات والإيحاءات فمثلاً (مدافن الشرق) ودلالتها النفطية التي تشتهر بها المنطقة الشرقية من الجزيرة العربية حيث يعضد هذه الدلالة – وهذا التفسير – ارتباط هذا المسمى بالشركات الأجنبية، والكامب، والسير جون، والحالة العملية لسكانها فكلها تشير إلى هذا المعنى!!
ومثلاً مدينة (الوديعة) (ص 122-125) ووجود المستشفى الجديد فيها، وذلك إشارة ودلالة على الموقع المعروف في نجران على الحدود مع اليمن الشقيق. وكذلك (جبال الكوكب) ص 149-151 التي خرجوا للصيد فيها. وهذه التسمية معروفة في الواقع والحقيقة، فالمعروف أنه يوجد وادٍ مشهور في منطقة نجران واسمه (وادي الكوكب) وهو من المعالم الحضارية في منطقة نجران كما تقول الموسوعة (ويكيبديا).
هذا على المستوى المكاني (مثلاً) أما على المستوى الإنساني فهذا اسم (فراج) ودلالاته من الفرج والاتساع وانكشاف الغم والهم وهذه تتماشى مع سيرورة البطل في الرواية. وهذا اسم (أيوب) ودلالات الصبر على المصائب والحوادث والأوبة/ العودة والرجوع والتوبة وكلها تتماشى مع شخصية البطل في الرواية.
ثالثاً: ونقف هنا مع التوظيف النَّصي للمرويات الشعبية والقروية في هذه الرواية مما يدل على ارتباط الكاتب بالأجواء الشعبية في منطقته وبالتالي إسقاطها على الرواية. فنجده يوظف مسألة الطب الشعبي، والرقية، وتلبس الجان بالإنسان، وشعوذة المروعي، والاعتقادات في (السبحة البيضاء) وقدرتها على التحصين والحفظ والمنع من الشرور والآفات!! وفي هذا دلالة على واقعية الرواية أو إسقاط الواقع البيئي والشعبي والاجتماعي على فضاءات الرواية ومتنها السردي.
رابعاً: نصائحه التربوية والاجتماعية في تربية الأولاد والتقرب إليهم وسلامة الصدر من الأحقاد وإطلاق العملاق من داخله والطاقات الإيجابية وطرح ذلك في محاضراته وندواته وفي أسرته ومع أطفاله وعلاقاته بالناس في ميادين سباق الفروسية... إلخ ص ص 162-174.
ومن ذلك – أخيراً – استخدامه مقولات وقصائد لشعراء معروفين في المنطقة وهما مهذل بن هادي الصقور ص 181 وهو شاعر حقيقي ومعروف وله قصائده الفصحوية والنبطية/ الشعبية. وكذلك الشاعر حامد أبو ستة المالكي ص 123 الشاعر المعروف حقيقة في بني مالك الجنوب.
خامساً: ومن تلك الجماليات التي نرصدها في هذه المداخلة، تكرار الرقم (10) في مواطن كثيرة من سرديات البطل (فراج) وما يمكن أن تشير إليه تأويلاً ودلالة. ففي سنته (العاشرة) من عمره اهتم به والده وأخذ يشركه معه في كثير من المواقف ص 104. وإقامة مجلسه واجتماعه دائماً في الساعة (العاشرة) مساءً ص 179، 185.
وفي الليلة (العاشرة) من الشهر (العاشر) أكتوبر تحدث النهاية حيث يتوقع البطل أن ترحل (الروح) إلى ربها ويوصي بإعادة الجسد إلى (قبالة) ص ص 185-190. ثم توقف الرواية عند الفصل (العاشر)!!
أظن أن هذه (العشريات) التزمينية لها علاقة بالعام 1960م والشهر (ديسمبر)/ الثاني عشر الذي افتتحت به الرواية ص (1)، ولعل لها علاقة بمولد المؤلف عام 1461هـ/1960م وربما يرتبط الشهر (10) في ذاكرته بأحداث سعيدة أو أليمة ولكنها (عشريات) قابلة للمثاقفة النقدية والإسقاطات النفسية!!
سادساً: وآخر الجماليات التي تقف عندها هذه المداخلة النقدية هو التناصات القرآنية والأدبية والشعرية التي تتضح بها لغته وأسلوبه عبر المتن السردي. وهذا يشعر القارئ بالتواصل الثقافي والمعرفي والديني/ القرآني لهذا المؤلف/ الكاتب فمثلاً:
نظر المغشي عليه = تناص قرآني، ص 13، ص 56.
ياليتها كانت القاضية = تناص قرآني، ص 53، 54.
ينبس ببنت شفة = تناص أدبي/ مثل فصيح ص 14.
مشغول من حاله في باله = تناص مثل شعبي ص 37.
أنا كالقيامة ذات يوم آتٍ = تناص شعري ص 181.
ومن خلال هذه التناصات تتنامى اللغة السردية في الرواية إلى آفاق الإبداع والتجلي لارتباطها بالتراث العربي في جانبيه الفصحوي والشعبي. وهذا يعطينا دلالة على اكتناز المعجم المعرفي للمؤلف بما يتيح له الكتابة بروح إبداعية.
***
(8) وقبل أن أختم هذه المثاقفة النقدية مع الرواية وفضاءاتها السردية لا بد من تسجيل إعجابي الشخصي بالفكرة والمسار السردي، واللغة والأسلوب المستخدم في التشويق والإثارة وإن كان لديَّ بعض الملاحظات التي أرجو أن يستفيد منها المؤلف في قادم أعماله المنتظرة:
أولاً: النهاية غير المتوقعة، فقد كانت الأحداث تقودنا إلى وفاة البطل فراج ونقل جسده إلى (قبالة) لتكون العودة الأخيرة كما أوصى بها رفيقه (هراج) ص 185-186. ولكن المؤلف لم يشأ ذلك فالبطل (فراج) استيقظ (قام) من سجدته الطويلة أو غيبوبته وصاح في ابنته:
«ماذا هناك؟»
«أنا كالقيامة ذات يوم آت»!!
***
هذه (.... النقاط) تدل القارئ على أن الرواية لم تكتمل بعد ولعلَّ لها فصول وأجزاء إلحاقية. وهذا نوع من النهايات المفتوحة التي يعمد لها الساردون ويحبذها النقاد. ولكن المعطيات السابقة لا تشي بهذه النهاية!! لا سيما أن المؤلف أثبت كلمة (انتهت) بعد السطر المنقوط!!
ثانياً: الترهل السردي الذي بدأت مظاهره منذ الفصل (الثامن) حيث تضاءلت التفريعات/ المقاطع عما كانت قبل في الفصول الأول – السابع، ففي (الثامن) 4 مقاطع، وفي (التاسع) 2 مقطعان وفي العاشر (1) مقطع واحد وهذا يدل على أنه بإمكان المؤلف أن يختم الرواية مع الفصل الثامن وهذا يستدعي تكثيف الرواية في الفصول السابقة والبعد عن الحشو والزيادات واللقطات التلفازية/ السينمائية وردم بعض الفجوات والفراغات النصية في المتن الروائي.
أضف إلى ذلك بعض التفاصيل السردية الزائدة والتي لا تخدم المتن الروائي وهي إضافات ثانوية لا تدخل في صلب العمل الروائي مثل ما جاء في الصفحات 34، 37، 63، 100 وغيرها.
ثالثاً: هيمنة (الراوي العليم) على مفاصل السرديات والحكاية فهو الواصف والمحاور والعارف بكل شيء وذلك من خلال الافتتاحيات بالأفعال الماضوية وهذا يعني التلازم الشديد بين هذا الراوي السردي، والراوي/ المؤلف. وهذه الصورة السردية للراوي العليم تضعف المتن الروائي وتُصنِّم أبطال وشخوص القصة وتشل حركتهم الدرامية في النَّص وتجعلهم أصحاب ردات فعل فقط، بينما دور الراوي العليم هو أن يعلق على الأحداث ويقدم عالماً سردياً من خلال تحريك الشخوص وخلق المكونات السردية.
رابعاً: الاستشهادات الشعرية وذكر مؤلفها وقائلها، ونقلها بحرفيتها مما يثقل الرواية بزيادات غير ذات قيمة فمثلاً في ص 123 ينقل المؤلف مقطعاً من قصيدة للشاعر حامد أبو ستة المالكي وتكتب بطريقة سطرية والمفروض أن تكتب حسب القصيدة البيتية/ العمودية لتتضح أنها شعر. وهذا يبعدها عن (التناص) المطلوب في فنيات الرواية والسرد عموماً. ولكنه بهذه الصورة هذيان روائي لا فائدة من ورائه. وقد تجاوز المؤلف هذا المنزلق النصوصي عندما أشار إلى جزء من قصيدة الشاعر مهذل الصقور ص 181.
خامساً: التناقضات النصيَّة في بعض مفاصل المتن الروائي. وهذا يدل على عدم التأني والمراجعات المتكررة لما يكتبه المؤلف ثم ينقطع عنه فترة ثم يعود إليه ثانية ويكمل دون مراجعة. ويتبدى ذلك (مثلاً) في الصفحات 62، 63، حيث جاء في الصفحة (62) على لسان (الأخت جميلة): «أبشرك أنها ولدت صبياً» وبعدها في الصفحة (63) على لسان (الراوي العليم): «فضل هناك تصارع الولادة في تلك الليلة الظلماء...».
وفي الصفحات 109، 111 حيث جاء فيها الحديث عن الفتاة ذات العشرين ربيعاً التي ترعى الأغنام ووقعت في حب فراج وهي متزوجة ص 109، وبعد صفحتين يجيء الحديث عن نفس الفتاة وحوارها مع رجل يرغب الزواج منها وتقول له: «الم أبلغك مراراً أنني لا أيدك زوجاً لي.. ألا تفهم» ص 111. وعلى نفس الصفحات 109، 113 يظهر التناقض التالي: تقرر الرواية أن اللقاء بين العاشقين فراج والفتاة في نهاية كل أسبوع حيث يخرجان لرعي الغنم ص 109، وفي ص 113 تسعى الفتاة لإنقاذ فراج من القتل وترسل له من يطلب منه عدم «الخروج صباح الغد إلى مكانهما».
وهكذا تظهر بعض التناقضات النصيَّة في المتن الروائي وربما كان السبب هو عدم المراجعة الناقدة للمسار الروائي!!
سادساً: وآخر الملاحظات الفنيَّة هي ذلك الخيال الفانتنازي الذي لم يتحقق لبطل الرواية. فمن البداية كان المروعي والشيخ عبدالرحمن وأهل الجزيرة (قبالة) يؤكدون أن البطل (فراج) سيكون له شأن كبير (إن هو عاش) وبدأت الرعاية الأبوية والأسرية بعد المشيئة الربانية للوصول إلى ذلك (الشأن الكبير) ولكنه في نهاية الرواية لم يصل إلا إلى محاضر مرموق ومدرباً معتمداً وصاحب كاريزما خاصة بين رفاقه وجيله بسبب الجنيَة القرينة التي لاتفارقه!! فأين الشأن الكبير المنتظر؟!
وأخيراً لعلِّي ألخص الرواية الماتعة – التي قضيت معها (قارئاً ومحللاً وناقداً وكاتباً) أكثر من ثلاثين يوماً أو سبعمائة ساعة تقريباً، وذلك في عدة استنتاجات ختامية على النحو التالي:
* أنها تعالج مسائل الخيرية والشرية في المجتمع الإنس اني من خلال بعض المواقف في الرواية حيث نجد (أيوب/ الخيِّر) وعدوه رقاص/ هائض وغدران/ الشريرين والصراع بينهما ص 81 وما بعدها.
كما أنها تناقش بعض الأخلاقيات في التربية حيث علاقة الأب مع أبنائه وأسرته وإعطائهم بعض الوقت ص 171 وما بعدها. وبعض القضايا السياسية والاقتصادية والتدريبية ص 174-177.
* أنها تناقش بعض مسائل الغيبيات ودور المشعوذين في ذلك وقضايا الرقية والاستسلام للتطبيب الشعبي والمسَّ الشيطاني في مقابل الحقائق والإيمانيات والاستفادة من العصر وعلومه وتقنياته وذلك من خلال بعض الشخصيات في الرواية المروعي، الشيخ عبدالرحمن، الشيخ فراج الكبير، المعالج ابن فارق والثعبان الأسود، والأُمَّيْن الجنيَّة والإنسيَّة.....
* وأخيراً تناقش المسألة القدرية الربانية حيال الموت/ النهاية فرغم كل ما تعرض له البطل (فراج) منذ كان في بطن أمه حيث حاولت الجدة (زهرة) إجهاض الحمل بشتى الطرق حتى يموت الجنين، ويسلم الأب (أيوب) ومحاولات (رقاص) و(غدران) للقضاء عليه، وما حصل للسفينة من غرق، ومحاولة قتله من قبل زوج الفتاة التي أحبت البطل (فراج) ولدغة الثعبان الأسود، وإطلاق النار بالخطأ من أحد زملائه في رحلة الصيد. كل تلك المواقف (المميتة) لم يمت البطل فيها، وظل مقاوماً وصامداً ومترحلاً من (قبالة) وعائداً إليها. وهذا يعني أن الموت والنهاية والأجل قدر إلهي لا دخل للبشر فيه. وهذه إحدى الرسائل الوعظية التي سعت الرواية لإيصالها للقارئ عبر اللغة السردية.
خاتمة:
وهكذا تداخلنا – نقدياً – مع الرواية الماتعة، وطوقناها من كل جهاتها النصيَّة والأسلوبية واللغوية والروائية، ودرسناها جمالياً، وحللناها دلالياً ورمزياً. وقلَّبناها على كل الوجوه المحتملة قرائياً وتأويلياً، فخرجنا بتلك الصور النقدية عبر الصفحات السابقة، فإن أحسنَّا فلله الحمد والمنَّة.. وإن جانبنا الصواب فحسبي أنني رأيت نوراً فمشيت فيه قدر طاقتي!!
والحمد لله رب العالمين.
* جـــدة
من مساء الجمعة 27 - 3 - 1439هـ
إلى مساء الأحد 20 - 4 - 1439هـ
- د. يوسف حسن العارف