الثقافية - محمد هليل الرويلي:
يقول الناس إن أعرابيًا ندى بضاحية من ضواحي «الزوراء» واتكأ بسوقها مع مشيخة من شعراء لا يعلق لهم مبار بغبار ولا يجري معهم ممار لا بمضمار، ولا بسفر من الأسفار. ودون ماتلون من قولهم ومنقولهم ثم استأذن وندى إلى القصاصين والروائيين, يقولون كان قبلها في بصرى الشام يستتلي في رحلة للجزيرة السعودية يدون «لمجلتها الثقافية» يكتب كل سبت المكاتيب لمعلمه «أبا يزن» إبراهيم التركي قاطن نجد. يا لبهجة الزمان! بعد قرابة ثلاثة عقود جاء رئيس تحريرهم (خالد المالك) قابلناهم وقلوبهم تنبض عروبة مطلعهم رواء وأيداء, فألف أهلًا ومسهلًا ومرحبًا بهم وبصحافهم.
والآن لعلنا ندنو من هذا الأعرابي ونبتدره بالسؤال عن سبته هذا بماذا ستدلف مطابعهم وانطباعهم عن عراقنا المجيد.
فقلت: لاجرم أيها العراقيون فأنا في ذراكم استطلت في القول ولم استقلل الطول, يا مَنْ إذا أنشأتم وشَّأتم، وإذا أسهبتم أذهبتم، وإذا عبَّرتم حبَّرتم، وإذا أوجزتم أعجزتم، دجت بمغناكم فغنمت المهذب والموشح والمستعذب المستملح فهاكم ما استتليناه منكم في جزئكم الثاني من (رقيم ودهاق العراق) طيب الذكر والأعراق. ولا عجب يا عرب فلسان حالنا يهتف يا بغداد ولهًا, وصبابة, شوقًا لنلقاكم, وأظن أن لا أبلغ في هذا المجال من الاستهلال بقول الشاعر السوري الراحل نزار قباني:
مُـدّي بسـاطيَ وامـلأي أكوابي
وانسي العِتابَ فقد نسَـيتُ عتابي
عيناكِ، يا بغـدادُ ، منـذُ طفولَتي
شَـمسانِ نائمَـتانِ في أهـدابي
لا تُنكري وجـهي ، فأنتَ حَبيبَتي
وورودُ مائدَتي وكـأسُ شـرابي
بغدادُ.. جئتُـكِ كالسّـفينةِ مُتعَـباً
أخـفي جِراحاتي وراءَ ثيـابي
ورميتُ رأسي فوقَ صدرِ أميرَتي
وتلاقـتِ الشّـفَتانُ بعدَ غـيابِ
أنا ذلكَ البَحّـارُ يُنفـِقُ عمـرَهُ
في البحثِ عن حبٍّ وعن أحبابِ
الرواية العراقية بين الريادة والتجريب
أكدت البروفسور أوراد محمد - جامعة بابل- أن تحقيب الرواية العراقية وتتبع نشأتها يستلزم رصد العوامل المؤثرة التي وقفت وراء كتابتها، وهي في الغالب تعود إلى عاملين هما الأثر الثقافي والانفتاح على التيارات الفكرية الروائية التي وفدت إلى المثقف العربي بفعل عامل الترجمة الذي أسهم في إيصال أعمال الروائيين الغرب، الأمر الذي دفع المبدع العراقي إلى تمثل الرواية الغربية واستلهام وعيها في فهم الوجود, وكذلك الإنشداد إلى التأريخ إذ مثلت الحكايات الشعبية والخبر والسيرة بتمظهراتها المتنوعة والمقامة وسوى ذلك أنماطا إبداعية أبت أن تتلاشى أو تندثر.
مشيرة إلى المقامات الآلوسية لأبي الثناء الآلوسي شاهدًا على ذلك، فضلاً عن «الرواية الايقاظية» لسليمان فيضي الصادرة عام 1919، إذ مثلت الأخيرة نصًا مهما استعرض فيه عناصر القصة التراثية وتمثل أبنيتها بعمق تام.
وقالت: إن عامل الانفتاح على الرواية الغربية، خطى خطوات ملموسة بفعل الاتصال مع النص الغربي لاسيما أعمال الروائيين الروس والفرنسيين وأعمال الروائيين الأمريكيين فيما بعد, كذلك كان للتجارب العربية المتقدمة أثرها على الروائي العراقي نحو الرواية المصرية متمثلة بكتابات مصطفى لطفي المنفلوطي، والرواية اللبنانية لاسيما الأثر الذي تركته كتابات جبران خليل جبران.
وأضافت: إن مؤرخي الرواية يرجعون نشأة الرواية العراقية إلى العقد الثاني من القرن الفائت، وذلك مع التجارب الأولى لأعمال محمود السيد وتحديداً في روايتيه «في سبيل الزواج» 1921, و»مصير الضعفاء».
تولستوي ودوستويفسكي يؤثرون على العراقيين
كما شهدت الكتابة الرواية العراقية مطلع الستينيات تفوقاً على مستوى الأساليب الجمالية والمضامين الفكرية إذ كان لعامل الترجمة والاطلاع على التيارات الفكرية أثر في ذلك النضج، لاسيما الرواية الإنكليزية نحو أعمال هنري جيمس وجيمس جويس، والأثر الذي تركته الرواية الروسية نحو أعمال غوركي وتولستوي ودوستويفسكي في تبني أفكار الواقعية النقدية والاشتراكية، ثم أخذت آركيولوجيا الرواية العراقية تحفر بعيداً لتخترق المنظورات الآيديولوجية التي جاءت بها الرواية الفرنسية الجديدة، فضلاً عن الرواية الوجودية التي لا يمكن إغفال أثرها على المثقف العراقي بشكل عام.
بعد ذلك ظهر ما يعرف بـنمط «الواقعية السحرية» في الثمانينيات, وبدخول الرواية العراقية القرن الحادي والعشرين، يتبارى راهنها السردي إلى اجترار منظومات خطاب «مابعد حداثي» الذي ينزع إلى تجاوز التنميط والنمذجة القائمة على الشكل والتراتبية ليؤمن باللاشكل واللاتراتبية.
السرد الوصفي ضد إيران
ويرى الكاتب الصحافي حارث الأزدي أن الرواية العراقية قبل 2003 ليست كما هي بعدها، مستشهدًا بما كان عليه فؤاد التكرلي وجبرا إبراهيم جبرا وعبدالستار ناصر من شغل بالقضايا والرؤى التي تميز الأحزاب القومية عن الشيوعية والصراعات الدائرة وقتها بين اتباع الحزبين، كما اتخذ بعضهم من الموضوعات الاجتماعية وقصص الحب العفيفة وما يهتم به الناس وقتها مادة للروايات التي لم يتوان بعضها الآخر عن تناول الانقلابات العسكرية وما جرى من أحداث في خمسينات وستينات القرن الماضي مادة للصراع الدارمي والحبكة في مسارات الرواية وتأثيراتها على سياق الأحداث، فضلاً عن توثيق حدث امتد لثماني سنوات خاضها العراقيون حرباً ضروساً ضد إيران.
فرواية (طِشّاري) لأنعام كجه جي ورواية (ذكريات معتقة باليوريا) لعلي الحديثي. ورواية (فرانكشتاين في بغداد) لأحمد السعداوي والتي مخرت عباب الأحداث العاصفة في العراق وجميعها تحدثت عن الشتات والانتقام من القتلة المارقين.
ولعلني لا أغفل جانباً مهماً في التناول السردي الروائي المعتمد على مادة الدين والسياسة وتداخلاتهما والعلاقة الحميمة بين الرجل والمرأة أو بعبارة أدق ما كان يعرف سابقاً بالأدب المكشوف، وقد سادت هذه الموضوعات في متون الروايات خلال العقد الأخير وصارت من لوازم العمود الفقري للرواية.
الشعر العراقي ريادة وتميز
وحول الشعر العراقي الحديث ريادة وتميز قالت الدكتورة عشتار داود محمد: قبل الكلام في الشعر العراقي الحديث، لا مناص من تنويه تأصيلي، بأنه قد بدأ الشعر على هذه الأرض منذ الحضارات القديمة، وتبلور في ملحمة من أهم ملاحم الإنسان هي (ملحمة كلكامش)، التي تبتدئ بعبارة حريِّة بأن نعدّها وصفاً دقيقاً للإنسان العراقي الجدير بالخلود، على مدى التاريخ:
«هو الذي رأى كل شيء
فغنّي بذكره يا بلادي»
كاشفة بأن الشعر كان حاضراً قديماً في البصرة حيث استقطبت مرابد الشعر، كما ولد وعاش فيها الكثير من الشعراء، وفي الكوفة أيضاً كان الشعر حاضراً بقوة، حيث يعد أبو الطيب المتنبي الكوفي من أبرز شعرائها، وتعد بغداد التي صارت حاضرة الدنيا في العصر العباسي قِبلةً للشعراء من كل الأصقاع.
سقطت بغداد ولم يسقط الشعر
مؤكدة أنه وبعد سقوط بغداد عام 656 هـ، وانهيار الحياة الفكرية، لم يخلُ وفاض الشعر العراقي، فقد ظهر في الحقبة الزمنية الموالية مباشرةً لهذا الحدث الجلل الشاعر «صفي الدين الحلي» الذي يقف في الصفوف المتقدمة للشعر العربي. أما في العصر الحديث فإن الانتكاسة التي نجمت عن سقوط بغداد وأرخت بسدولها على الحياة الفكرية لجميع بلاد المسلمين، لم تحجب الشعر، وإنما كان هنالك في البداية شعر مواكب للمرحلة. ففي المرحلة الأولى من مراحل الشعر الحديث التي تعود إلى القرن التاسع عشر، كان الشعر العراقي تقليدياً محاكياً للشعر القديم، يميل إلى الصنعة، وموضوعاته محدودة، ومن أبرز شعرائه عبدالباقي العمري، ومحمد سعيد الحبوبي، وعبدالغفار الأخرس. وفي المرحلة الثانية، ومع بدايات القرن العشرين، أصبح الشعر العراقي أكثر اعتدالاً من الناحية الفنية، لاسيما بين الحربين العالميتين، فقد ابتعد الشعراء عن الصنعة والتكلف، وصار الشعر عندهم أكثر واقعية، ذا رسالة إنسانية إصلاحية، من خلال التكلم بلسان الجماعة، والتعبير عن هموم الناس، ومن أبرز شعراء هذه المرحلة، محمد البصير. مع وجود نزعة التجديد لدى بعض شعراء هذه المرحلة، التي تجلت لدى جميل صدقي الزهاوي، ومعروف الرصافي، اللذين كانا من أوائل المجددين في شكل القصيدة الحديثة، ليس عراقياً فحسب وإنما عربياً أيضاً، مما جعلهما من الممهدين لميلاد قصيدتي التفعيلة أولاً، والنثر ثانياً. تلا هذه المرحلة مرحلة انشطر فيها الشعراء بين الشعر العمودي والشعر الحر. ومن أبرز شعراء الشعر العمودي في القرن العشرين، محمد مهدي الجواهري .
وأضافت: أما إذا دخلنا إلى ميدان الشعر الحر، فبعد الحرب العالمية الثانية، حصلت تحولات فكرية هائلة في العالم، كان لها انعكاسها على الشعر العربي، وقد تبلور هذا التغيير في العراق، إذ لا مراء في وقوف العراق في مقدمة البلدان العربية في ريادة الشعر الحر، وهي معلومة يعلمها القاصي والداني، ويعد جدال هذه الحقيقة جدالاً عقيماً، فإن وجود محاولات متفرقة هنا وهناك، لم يسجل حضوره الناضج الراسخ إلا من خلال الخطوة الجريئة التي خطاها بدر شاكر السياب، ونازك الملائكة.
«أخوان عبقر» عراقيون
وقد واكبوهما شعراء عراقيون، أسهموا في رسم مسار هذا النوع من الشعر، أهمهم عبد الوهاب البياتي وبُلَند الحيدري وشاذل طاقة. وأغلب هؤلاء الشعراء وبعض من شعراء مرحلة ما بعد الرواد، تزامنوا في دراستهم الجامعية في دار المعلمين العالية، مما يشير إلى ثقافة المجتمع العالية ذلك الحين، ونتيجة لاجتماعهم كوّنوا جماعة أدبية باسم (أخوان عبقر).
وتابعت: وبعد مرحلة ما بعد الرواد، جاءت مرحلة خمسينيات وستينيات القرن العشرين ، وهي مرحلة خصبة، ناتجة عن الاحتدام الفكري، ومليئة بالتساؤلات والحيرة والقلق، وكان من أبرز شعرائها رشدي العامل وسعدي يوسف ولميعة عباس التي لشعرها نكهة عراقية خاصة، وعدّها الكثيرون ملهمة السياب منذ دراستهما معاً في دار المعلمين العالية، وكتب إيليا أبو ماضي عن أولى قصائدها متعجباً: «إن في العراق مثل هؤلاء الأطفال فعلى أية نهضة شعرية مقبل العراق» ثم تلت هذه المرحلة مرحلة نشط فيها شعراء المعركة والسلطة، لاسيما في عقدي الثمانينيات والتسعينيات، وأهمهم شاعر يعد من بين أبرز شعراء الشعر العمودي العراقي في العصر الحديث، على الرغم من اختلاف النقاد حوله من حيث التوجه، بين مؤيد ومعارض، ولكنهم لم يختلفوا حول شعريته ألبتة، إنه الشاعر عبدالرزاق عبدالواحد.
وقبل الانتقال لقصيدة النثر، أشارت الدكتورة «عشتار» إلى اسم يتكرر كثيراً على رقعة الشعر الحر، حتى حقق حضوراً شاخصاً، بأسلوبه الساخر القائم على عنصر المفارقة، إنه الشاعر البصري أحمد مطر، أحد الشعراء المغتربين، الذي ذاع صيته في العقدين الأخيرين، التي صار فيها بالإمكان تداول قصائده، ذات الموضوعات السياسية الجريئة الساخرة، بأسلوبه السهل الممتنع، ليختطّ لنفسه طريقاً جديداً على خارطة الشعر العربي.
أما قصيدة النثر، فتقول: إن الريادة العربية فيها عراقية أيضاً، فأقدم روّادها في العراق، هم روفائيل بطّي ومعروف الرصافي، وظهرت جماعة كركوك الأدبية، التي كتب مؤسسوها قصيدة النثر، ومن أهمهم سركون بولص وفاضل العزاوي. كاشفة أن روادها هم شعراء غير عرب بين تركمان وأكراد وسريان.
«نازك الملائكة» رائدة الشعر الحر
وعن التجربة الشعرية العراقية الفريدة نازك الملائكة وريادتها في الشعر الحر قالت الدكتورة وصال الدليمي: نازك صادق الملائكة، ترعرعت في بيئة ثقافية، فوالدتها سلمى شاعرة تنشر الشعر في الصحف والمجلات باسم أدبي هو «أم نزار الملائكة» ولها أثر كبير في تنمية موهبتها وتحفيظها الأوزان الشعرية. أما والدها صادق الملائكة فترك مؤلفات أهمها موسوعة «دائرة معارف الناس» في عشرين مجلدا. درست نازك اللغة العربية, ثم درست الموسيقى، وحصلت على شهادة الماجستير في الأدب المقارن من جامعة ويسكونسن- ماديسون في أمريكا، وعينت أستاذة في جامعة بغداد وجامعة البصرة ثم جامعة الكويت. عاشت في القاهرة منذ عام 1990م في عزلة اختيارية وتوفيت بها في 20 حزيران عام 2007م عن عمر يناهز84 عاماً.
وأوضحت «الدليمي» إن الآراء تتفاوت حول أسبقية الكتابة على أسلوب الشعر الحر فيرى بعضهم أن نازك هي أول من كتب بهذا الأسلوب في قصيدتها «الكوليرا» في حين يرى بعضهم أن الشاعر بدر شاكر السياب هو الأسبق في قصيدته «هل كان حيّاً». وهاتان القصيدتان نشرتا في فترة متقاربة في نفس العام، حيث تقيدتا بالوزن وتحررتا من نظام الشطرين وقد فتحتا الباب واسعاً لانطلاق قصيدة التفعيلة إلى آفاق واسعة لتصبح الخيار الأول لتجارب أغلب شعراء العالم العربي.
وأضافت: إن نازك بدأت القصيدة برومانسية وظلت حتى في أشواطها الأخيرة رومانسية أمام واقع قاس، وأقطار ترزح تحت ضربات الجهل والتخلف، شاعرة قومية وإنسانية ووطنية أغلب قصائدها تحمل الهمَّ القومي والهمَّ الوطني وهمَّ الواقع الاجتماعي المثخن بالجراح. فهي رومانسية الذات المعذبة في زمن تراه يتصدع وتنهار قيمه وحلمها بواقع مثالي أشاع في نفسها ذلك الحزن الشفيف الذي يتسرب في أغلب قصائدها. قصائدها قصيرة غالباً، متوهجة لا يحتاج القارئ إلى جهد في التعرف على أجوائها ومساراتها، غير أن بعضها يغلب عليه الغموض ربما بسبب استثمارها بعض الرموز الأسطورية قبل الخمسينات من القرن الماضي.
«الجواهري».. شاعر التنوع
عُرِفَ محمد مهدي الجواهري بالشاعر المتمرد واتصف شعره بالثورة والرفض والانقلاب على الواقع الرتيب للحياة، الإعلامي والشاعر محمد نصيف أكد أن من يذهب هذا المذهب في تصوره عن الجواهري لا شك بأنه يستند إلى مساحة واسعة من شعره الثائر الذي وَشّحَ تجربةً استنزفتْ عمراً مثقلاً بالهموم والمواجهة مع السلطة تارة ومع المجتمع تارة أخرى فلا يخرج الجواهري من معركة إلا دخل معركة جديدة لا تقل ضراوة عن سابقتها، ومن رغب الوقوف على معارك الجواهري ما عليه إلا أن يبحر في خضّم قوافيه المتلاطمة، ولكن إلى جانب ذلك حلّق الجواهري في فضاء الشعر الوجداني وهزّه جمال المرأة وفجّر في وجدانهِ كوامنَ وجدهِ وأثارتْهْ الأنوثة الطاغية عند بعضهنَّ فحملتهُ على أجنحة الأحلام والخيال حتى رفدَ المشهد الشعري بقصائد تقطر عذوبة وتفيض سحراً، ففي قصيدته «غيداء» التي يناجي بها امرأة دمشقية يقول:
يا بنتَ خضراءِ الربى نَفَساً
وشقيقةَ الطيرِ الذي يشدو
يا مَنْ غذيتِ النبع من بردى
فحلا بهِ الإصدارُ والوِردُ
وفي قصيدة «بنتُ بيروت» التي يصف فيها لهفة قلبه وهو يهفو ليقنص شيئاً من مما عجَّ رصيف بيروت به فيقول:
يا عَذبَةَ الرُوح يا فتّانَة الجَسدِ
يا بنتَ «بيروتَ» يا أنشودةَ البَلدِ
يا قَطرةً من نِطاف الفجر ساقطها
من أرز لبنانَ خفَّاقُ الظلالِ ندي
أما في قصيدة «إليها» فيتنقل بأبياتها بين جمال القد وسواد الشعر والوجه المنير:
تَهضَّمني قدُّكُ الأهيفُ
وألهَبَني حُسنُك المُترَفُ
كما الليلُ صَبَّ السَوادَ المُخيفَ
صَبَّ الهوى شعرُك الأغدَفُ
وقال في «جين» التي أعيت منطقه إذ أسرفت في ترف الجمال فكانت كتأثير الخمر على خياله ومنها:
أسرفتِ في ترفِ الجمال
وسكرتِ من خمرِ الدلالِ
وثنيتِ طرفكِ فانثنى
يرمي الظلالَ على الظلالِ
أعيا جمالك منطقي
وسما خيالك عن خيالي
يا (جينُ) لطفُ الخمرِ
أنكِ كنتِ ماثلةً حيالي
هذه الومضات الوجدانية الندية غالباً ما يجانبها المحدثون عن الجواهري وينشغلون بشعره الثوري أو بما تنزف قريحته من حنين الوطن ومعاركه في الساحات السياسية. وشار «نصيف» أن الجواهري يلتقط ما بين الثورة والمرأة صوراً للوطن مرة وهو يتمرغ في حضنه الدافئ ومرة وهو يكابد الحنين متوسداً أشواك الغربة لا سيما، بريد الغربة ويناظرُهُ بريد العودة، ففي بريد الغربة يقول:
هبَّ النسيم فهبتِ الأشواقُ
وهفا إليكمْ قلبه الخّفاقُ
وتوافَقا فتحالفا هو والأسى
وحَمامُ هذا الأيكِ والأطواقُ
ما شوقُ أهل الشوق في عُرفِ الهوى
نُكرٌ فقد خُلِقوا لكي يشتاقوا
ماذا أذُم من الهوى وبفضلهِ
قد رقَّ لي طبعٌ وصحَّ مَذاقُ
أما الرفاقُ فلم يَسُؤْني هجرهُمْ
إذ ليس في شرع الغرام رفاقُ
لو أُبرم الميثاقُ ما كَمَلَ الهوى
شرطُ الهوى أن يُنقَضَ الميثاقُ
وأضاف: كما لا يفوت على الجواهري أن يضمخ قوافيه بعطر الشهداء ومن أجمل ما كتب في هذا الشأن قصيدة «أخي جعفر» راثياً أخاه، الذي قتل برصاص السلطة أثناء تظاهرة قادها الشباب العراقي في بغداد عام 1948 احتجاجاً على معاهدة «بورتسموث» قال فيها:
أتعلم أم أنت لا تعلمُ
بأنَّ جراحَ الضحايا فمُ
فمٌ ليس كالمدّعي قولةً
وليس كآخر يسترحمُ
يصيحُ على المدقعين الجياع
أريقوا دماءكم تُطعموا
هذا هو الجواهري شاعر التنوع فلم يترك زاوية للعشق والجمال إلا نشر عطره في فضائها، وما جدّ ميدان للوطن إلا كان لخيل قوافيه السبق والصهيل.
الرصافي والسياب وعبدالواحد
وتطرق الباحث والأكاديمي الدكتور هلال الدليمي لحياة ثلاثة من أعلام الأدب والشعر في العراق هذه الأسماء لا تغفلها عين القارئ المتفحص فهم قمم عالية من قمم الأدب العربي في العراق: الشاعر الكبير معروف الرصافي والشاعر الكبير بدرشاكر السياب والشاعر الكبير عبدالرزاق عبدالواحد. وقد سجل هؤلاء الأدباء لأنفسهم وأمتهم إرثاً خالداً من الأدب الملتزم والكلام الجميل والجهد الجليل والكم الكبير من الدواوين والقصائد الرائعة للأجيال القادمة. فالأثر لا يموت بموت هذا النوع من البشر.
يقول الدليمي: من خلال تتبعي لسيرة الشعراء الثلاثة وجدت تشابها كبيراً بين الشاعرين الكبيرين معروف الرصافي والشاعر عبدالرزاق عبدالواحد في مجال الشعر المقاوم وصدق الانتماء للوطن وكانت كلماتهم وقصائدهم أشبه بالرصاص المتدفق من بندقية مقاتل في الميدان. فها هو الرصافي يقف خطيباً في ثورة رشيد عالي الكيلاني والعقداء الأربعة في «ثورة مايس» 1941. ومن أجمل ما قال الرصافي الثائر خصوصاً بعدما وقع العراق تحت الاحتلال البريطاني، قصيدته التي قال فيها:
علمٌ ودستورٌ ومجلسُ أمّـــــةٍ
كلٌّ عن المعنى الصحيحِ محـرّفُ
أسماء ليس لنا سوى ألفاظها
أما معانيـــها فليســــت تـُـــعرفُ
من يقرأ الدستورَ يعلمْ أنّـــــهُ
وفقاً لصك الإنتدابِ مصنَّــــــــفُ
وللرصافي أيضا قصيدة كانت تغنى كنشيد في مدارس العراق وهي قصيدة «اليتيم في العيد» أو «الأرملة المرضعة» حين عرف قصة حياة أم اليتيم فكتب لها:
لَقِيتُها لَيْتَنِـي مَا كُنْتُ أَلْقَاهَـا
تَمْشِي وَقَدْ أَثْقَلَ الإمْلاقُ مَمْشَاهَـا
أَثْوَابُـهَا رَثَّـةٌ والرِّجْلُ حَافِيَـةٌ
وَالدَّمْعُ تَذْرِفُهُ في الخَدِّ عَيْنَاهَـا
أما الشاعر الكبير بدر شاكر السياب فقد عاش المرحلة في شبابه وحكمت عليه بالابتعاد عن بلده وعاش حياة الغربة حزيناً وكان يصور تلك المعاناة تصويراً دقيقاً بمداد كلماته في قصيدة «غريب على الخليج»:
غنيتُ تربتكَ الحبيبة
وحملتها فأنا المسيحُ يجرّ في المنفى صليبه،
فسمعت وقع خطى الجياع تسير، تدمي من عثار
فتذرّ في عينيّ، منك ومن مناسمها، غبار
ما زلتُ أضرب متربَ القدمينِ أشعثَ، في الدروب
تحت الشموس الأجنبية
ويتعجب السياب من خيانة الخائنين ويقول:
إنّي لأعجب كيف يمكن أن يخون الخائنون
أيخون إنسان بلاده؟
إن خان معنى أن يكون، فكيف يمكن أن يكون؟
الشمس أجمل في بلادي من سواها، والظلام
حتى الظلام هناك أجمل، فهو يحتضن العراق
المتنبي الأخير
أما الشاعر المبدع والذي لقب بالنهر الثالث والمتنبي الأخير وهو يستحق كل هذا وزيادة, وهو الشاعر الكبير عبد الرزاق عبدالواحد والذي عايشناه في الأردن وجالسناه وسمعنا منه بكاء العاشق والمحب الصادق للعراق, فقد أسعفني الحظ أن أجالسه في بيته بعمان, وكانت دموعنا تواسي دموعه, فما ذكر العراق إلا بكى فقد كان غزير الدمع رقيق القلب, ثابتاً على قول الحق ما غيرته الظروف والأحوال بل زادته صلابة وثباتاً بالرغم من تقدمه في السن. كان «عبد الواحد» بحق سيد الحرف وشاعر القرنين. فلا شيء يسعده غير حب الشعر وكأنني به يرد على «السياب» في قصيدته إذ يقول:
يا عراق هنيئاً لمن لا يخونكْ
هنيئاً لمن إذ تكونُ طعيناً يكونُكْ
هنيئاً لمن وهو يلفظ آخرَ أنفاسِهِ
تتلاقى عليهِ جفونُكْ.
تنازع الاتجاهات في الهوية النقدية العراقية
المتتبع للحركة النقدية في العراق يلحظ أنها تطورت وازدهرت بشكل لافت لما تمتلكه من مقومات القوة والغناء الفكري، وبفعل التطور الكبير الحاصل في بساتين المعرفة على اختلاف ألوانها وتنوع حصادها، والانفتاح على ثقافة الوافد، تحت ميثاق التوالج الفكري والمعرفي بينهما، وحول تنازع الاتجاهات في الهوية النقدية العراقية أوضحت الدكتورة وسن عبدالمنعم أنه بالرغم من إشكالية «المنهج والنظرية»، فقد ساعدت المثاقفة مع الآخر على تكييف النظرية النقدية مع البيئة العراقية، وبذا يمكن تصنيف النقد العراقي الآن بحسب تمثلات النقاد العراقيين للمناهج الحداثية وميولهم النقدية إلى أربعة اتجاهات: نقد الحداثة وفيه ينزع النقد نحو توظيف المناهج البنيوية والشكلانية والسوسيولوجية في تحليل الخطاب الأدبي بصيغ متوازنة بين النص والواقع ويندرج ضمن هذا الاتجاه فاضل ثامر وحاتم الصكر وعلي جعفر العلاق ومحمد صابر. وهناك نقد ما بعد الحداثة والذي ينزع نحو توظيف المناهج ما بعد البنيوية كالتفكيكية والنصانية والسيميائية في تحليل النص الأدبي بأدوات أكثر جدة وحداثة، وأبرز النقاد في هذا الاتجاه عباس عبد جاسم وسعيد الغانمي وخالد علي ياس وبشير حاجم. وهناك النقد الثقافي وفيه ينزع النقد نحو توظيف الآليات المعرفية في دراسة الظاهرة الأدبية بأفـق مفتوح على العلوم الإنسانية والطبيعية، ومن رموزه عبدالله إبراهيم وسمير الخليل وحيدر سعيد. وأخيرًا النقد الأكاديمي وهو نقد يمتاح من مناهج أكاديمية علمية في البحث والمعالجة ومنهم أحمد مطلوب وشجاع العاني وسمير الخليل. مؤكدة على أنه بالرغم من تنازع الاتجاهات النقدية في الهوية النقدية العراقية بين الأنا والآخر إلا أن الحركة النقدية العراقية تتجه نحو تكريس تغيرات الذائقة والوعي الناتجة عن قوة وتأثير تحولات العالم نفسه.