بعد سقوط الاتحاد السوفيتي تكونت لدى أعدائه وأصدقائه «حسرة» مشتركة؛ وهي أن العالم فقد «توازن القوة» التي تتيح له الاستعانة بطرف إذا استبد الطرف الآخر، فلا يستطيع أحد مواجهة قوة عظمى دون الاستعانة بنقيضها! ولكن هل يوجد أو وجد أو سوف يوجد توازن؟ وإذا كان الجواب نعم ماذا نسمي سباق التسلح إذن؟
أول إثبات لانعدام التوازن هو الحرب الباردة التي لم تنقطع أبداً منذ الحرب الثانية - حتى «الحرب العالمية الثالثة» الجارية حالياً على الأرض العربية بالدرجة الأولى! .. وهي بالضرورة «باردة» لأن الطرف «الشرير» لا يردعه «التوازن»، بل يخشى تفوق الطرف الآخر!
أما الإثبات العملي على تفوق الاتحاد السوفيتي السابق عسكرياً، فتوجد عدة محطات تاريخية لا مجال فيها للوهم المخابراتي الأمريكي، كان أبرزها:
أولاً- تهديد خروشوف بالحرب النووية إذا لم يتوقف العدوان الثلاثي على عبد الناصر عام 1956... وثانياً- عدم موافقة خروشوف ذاته على إزالة القواعد الصاروخية السوفيتية من جنوب كوبا، إلا بعد موافقة كيندي على إيقاف تآمر المخابرات الأمريكية ضد كوبا وضد الاتحاد السوفيتي في المياه الدولية فيما سمي بأزمة خليج الخنازير عام 1962!
الاختلاف بين كتلتي المافيا الأميركية الذي أدّى إلى اغتيال كيندي، يكمن في أن «كتلة كيندي» لا تريد الحرب لأنها تصدّق ما يقوله الاتحاد السوفيتي السابق، بينما الكتلة التي «اغتالت كيندي» لا تصدق وتعتقد أن تفوقها - بعدد الرؤوس النووية واختلاس الضربة الأولى - يمكنها من إفناء السوفيت وحلفائهم! أي أن كلتا الكتلتين ليس لديهما إثبات قاطع على ما تراه صائباً، ولكن كلتاهما تريدان إبادة السوفيت وحلفائهم، مهما كلف ذلك من ضحايا بالملايين!
بعد انهيار وتفكك الاتحاد السوفيتي وتدهور روسيا في مرحلة «الخيانة» –ابتداءً من «بريجنيف» حتى «يلتسين»- اعتقدت الكتلة الأمريكية الأكثر تطرفاً، التي أفرزت رؤساء أمريكان متطرفين متتالين، ابتداءً من «ريغان» حتى ذروتهم «جورج بوش الابن»، أن الوقت قد حان لتوجيه الضربة.
مجيء فلاديمير بوتين على سدة الحكم في روسيا قلب الأوهام رأساً على عقب، وجعل العقلانية تتفوق على تهور «الكاوبوي»، فجاء من الكتلة الأكثر حذراً رئيس أسود لأول مرة بتاريخ «الويلات المتحدة»، ليلجم ذلك التهور، ولكن الكتلة الأقل حذراً وضعت شرطاً لفوز الأسود، وهو أن وزارة الخارجية تبقى في يدها! ... أي أنه لأول مرة بتاريخ «الويلات» المتحدة يتكون «توازن» في الإدارة بين الكتلتين! وإذا كانت الانتخابات الأخيرة قد فازت بها الكتلة الأكثر حذراً من الصدام المباشر مع روسيا، إلا أن تأثير الكتلة الأكثر تطرفاً على الإدارة لا يزال كبيراً ومهدداً، لذلك جاء خطاب بوتين الأخير، ليقول لكل من تسول له نفسه: لازلنا أقوياء وأقوى من ذي قبل، بل لدينا ما لم نعلن عنه بعد، وأن أي اعتداء - حتى لو كان بالأسلحة التقليدية – سنعتبره نووياً! ولن نتوانى عن الرد.
- د. عادل العلي