علي الخزيم
في مرحلة الطفولة كان ضمن الأصدقاء بالحي طفل لطيف خفيف الظل سمح يتقبل كل ما يناله من أطفال الحارة بصدر رحب على اعتبار أنها مواقف عفوية من أطفال يلهون سائر يومهم، وكنا لا نعطيها أكثر من هذا الحجم والهم، غير أني أركز عليه الآن لأن الموضوع يهمه أكثر من المجموعة، وزاده الله نعمة أخرى بأنه ضعيف الذاكرة فهو سرعان ما ينسى أي موقف غير مقبول خلال جزء من الساعة، وتأكدت لدينا هذه الميزة عنده بدليل أننا بعد اللعب أمام منازلنا نتولى جمع أغراضه الخاصة من حذاء ولُعَب (حتى طاقيته) إن كان قد تذكرها فلبسها قبل الخروج من المنزل! لنوصلها لمنزلهم، ويبدو أن جده قد أورثه الظرف والدعابة؛ فذات يوم كنا جلوساً بفناء منزلهم فدخل جده حاملاً بين يديه ما جلبه لهم من السوق، فأخذ ينادي ويسألنا باللهجة الدارجة: (وين الذبانة)؟ يريد من يحمل عنه الأشياء لداخل المنزل، ولأننا أطفال أخذنا بالضحك والاستفهام، أي ذبابة تريد؟ أجاب: أين صاحبكم فلان؟ وكان قد أقبل وحل الإشكال، وفيما بعد سألناه عن سر وصفه بالذبابة؟! قال: إن جدي يتهمني بضعف الذاكرة ويشبهني بها لأنها كذلك! لاحظوا أنه قال (يتهمني)!
تذكرت هذا الموقف مؤخراً فمضيت أبحث عن مصداقية معلومات الجد؛ فمما قرأت أن أكثر من مئة ألف نوع من الذباب تعيش حول العالم؛ عشرة منها تستطيع العيش بالبيوت، وأن ذاكرة الذبابة ضعيفة جداً حيث إنها لا تتعدى خمس ثوانٍ فقط وهذا سبب عدم استجابتها حينما نطردها (نكشها) فحالما تطير تنسى ثم تعود، وتضع الذبابة خلال دورة حياتها التي تتراوح بين 6 - 24يوماً حوالي 9000 بيضة، ويبدو لي أن سر ضخامة العدد كونها تنسى أنها قد باضت بالأمس!
وورد ذكر الذباب بالقرآن الكريم مرة واحدة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَابًا وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئًا لَّا يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ} (الحج/73)، وبالتأكيد فهي لم تذكر بكتاب الله عبثاً، بل لأمر هام أراده الله سبحانه لنا موعظة وتذكرة وما هذه الآيات القرآنية الكونية إلا منهجٌ كي نتعرف إلى الله عز وجل من خلال خَلْقِه المحكم العظيم، ويقول علماء إن من المذهل أن جملتها العصبية تشبه ما لدى الإنسان، وعينها غايةٌ بالحدة البصرية، ووزن دماغها واحد من مليون جزء من الجرام، والتأمل بخلقتها مثال لما يزيد قربنا إلى الله والتفكر بحكمة خلقه وعظيم سلطانه.
بحثت عن صديق الطفولة فوجدته كما هو لطيفا مرحا مقبلا على الحياة، واستذكرنا الذبابة وضحكنا ملياً، لم يتنكر لذكريات الماضي رغم أنه بلغ شأوا عاليا بالمال والأعمال، ليس كمثل البعض ممن إذا ترأس إدارة أو ملك رصيدا بنكيا تغير من الجذر إلى الذؤابة، وتناسى كل ما مر بمراحل حياته وكأنه الذبابة سريعة النسيان، فنعم الرجال أمثال هؤلاء ممن صمدوا أمام المظاهر والزخرف، فبمثلهم تحلو علاقات الصفاء.