د. عبدالحق عزوزي
عندما تتلاشى الثقة التي تحكم البنيات الداخلية للمجتمع، وعندما يتعاظم فقدانها تكثر المشاكل كما يتقوى عدد المتدخلين الأجانب... ولا غرو أن الهجمات المتتالية الداخلية والخارجية تقوض كل دعائم الوحدة والقوة والمناعة التي تسمح لأي نظام داخلي أو إقليمي بمجاراة الدول الكبرى وتأثيرات النظام الدولي، ويكفي استحضار تجربة ليبيا اليوم وتجربة السودان سابقا وما تريد أن تقوم به إيران في دول كالعراق واليمن ولبنان..... بعض الأقلام الفلسفية التاريخية كانت تقول بأن التاريخ يعيد نفسه مرتين، وأيدتها أقلام أخرى عندما أضافت بأنه يعيد نفسه المرة الأولى على شكل تراجيديا وفي المرة الثانية على شكل كوميديا...وأظن أنه يعيد نفسه دائما في بعض بلداننا العربية بشكل تراجيدي وكوميدي مؤلم للعرب ومضحك للغربيين.
بعد نهاية الحرب الباردة كانت محنة العرب، كما كتب غسان سلامة منذ أكثر من عقد ونصف، هي تماما في تلك الإشكالية المستمرة القائمة من جانب، على تواجدهم في موقع حساس بمعطياته الجغرافية والاقتصادية والدينية، ومن جانب آخر، على تواضع عناصر القوة التي بحوزتهم للدفاع عن ذلك الموقع ولتعظيم الفوائد منها. لذلك كان تأثرهم بالحرب الباردة كبيرا يكاد يقترب من تأثر أوروبا بها، كما رأينا في تلك الفترة تأثرهم بالتحول الجاري نحو أحادية القطب كبيرا أيضا. والموقع الحساس الذي يكون بحوزة اللاعب الضعيف يتحول بالضرورة من مصدر محتمل للنفوذ إلى عبء سياسي كبير. وهذا ما يجعلنا نعتبر منطقتنا بدون مناعة كافية، تخترقها التأثيرات الدولية بسبب حساسيتها كما بسبب التشرذم الذي يمنعنا من تحويل هذه الحساسية إلى مصدر قوة بدلا من أن تكون مغناطيسيا يستثير رغبة الأقوياء بمد نفوذهم إليها....وتشرذم الوطن العربي اليوم يجعل بعضا من دوله تخترقها تأثيرات دولية وإقليمية وداخلية مجتمعة وخطيرة، وهي تأثيرات متنامية ويصعب التكهن بها، وكلها سلبية وعاتية تأتي على الأخضر واليابس بل وعلى القواعد والأسس التي بني عليها النظام الدولي.
جرثومة التفكك من أخطر الجراثيم التي يمكن أن تصيب بالشلل أي دولة وأي كيان وأي تجمع إقليمي أو نظام جهوي.....وتغير قواعد اللعب السياسي على المستوى الدولي لم يعد في صالح التفرقة والتشرذم، إطلاقا. ولكن محنة بعض الدول دائما هي عدم الاتعاظ واللاعقلانية وغياب الحس الاستباقي وغياب المصلحة العامة والاشتغال بالتفاهات بدل الخوض في الأولويات...الفصائل المتناحرة في ليبيا لا بد وأن تكون قد وصلتهم رسالة الوحدة ولا شيء غير الوحدة، وهي خط أحمر لا يجوز لعاقل التغاضي عنها أو تجاوزها أو اللعب السياسي حولها...
كنت عضوا في لجنة مناقشة دكتوراه لأحد الإخوة الليبيين الذي أعد دكتوراه قيمة عن الحصار الدولي الذي كانت تعاني منه ليبيا في عهد الرئيس المقتول؛ الدكتوراه كتبت بقلم علمي وأكاديمي يصف فترة زمنية دون تموقع أو استعمال للأنا أو خروج عن القواعد الجامعية؛ أفهمنا الأخ الليبي أن بلده تتوفر على أناس ذوي أقلام وذوي فكر مقنع وأن الدولة الأم يمكن أن تحضن الجميع... ولكن المشكلة الكبرى هي أن المشاكل الليبية المستعصية التي هي في تطور مستمر لها علاقة بضعف الدولة، حيث منذ البداية كان هناك غموض سياسي خطير، ليتنازع الشرعية السياسية في البلدة برلمانان وحكومتان في قطر يسبح في غيابات ما يشبه الحرب الأهلية؛ كما أن المجموعة الدولية لم تكترث كثيرا لما يمكن أن يتمخض عليه هذا التراكم الإرهابي في هاته المنطقة، تماما كما لم تكترث في البداية إلى تمزيق النسيج الاجتماعي والوطني اللاحم في العراق بعد سقوط صدام حيث تجيشت الغرائز العصبوية (الطائفية والمذهبية والعرقية والعشائرية) وتشكلت مؤسسات الدولة بناء على نظام الاحتصاص (المحاصصة) الطائفي والعرقي.... ومن جوف البنية الطائفية والمذهبية وغياب القشرة الحامية للدولة، نمت الفيروسات الجهادية التكفيرية كداعش وغيرها وانتقل نطاقها بسرعة البرق، سخر للقضاء عليها أزيد من أربعين دولة في تحالف دولي لم يسبق له مثيل حتى في الحربين العالميتين....
إن الوحدة سهلة الوقوع إذا رزقت الأطراف الحكمة والتعقل، وبغيابها يعطي الليبيون الجوائز الواحدة تلو الأخرى للإرهاب والتشرذم والتدخلات الحهوية والدولية...ونفس الشيء بالنسبة للعراق، فبغياب التعقل والحكمة تسربت جرثومة التفكك إلى الجسم العراقي، وأعطى الحكام العراقيون لإيران ولداعش وللمنظمات الإرهابية الجوائز الواحدة تلو الأخرى....