أبو عبدالرحمن ابن عقيل الظاهري
قال أبو عبدالرحمن: كانت جزيرة العرب محاصرة بالنفوذ الأجنبي؛ وذلك أن بريطانيا تريد بسط سيادتها على محمياتها في الساحل بمعاهدات بينها وبين المشيخات، وأن تبقى لها حرية الملاحة البحرية؛ وإذن فدول السواحل تواجد بريطاني، وأرضية نفوذ لدولة عظمى تملك العدة والعتاد.. وكانت تركيا تريد أن تبقى سيادتها عن طريق عمالها على الأماكن المقدسة، وفي الشمال، وفي الأحساء؛ وكل هذه الأجزاء لم تكن يومها محل أطماع استعمارية.. وكانت تركيا وبريطانيا معا تريدان الحيلولة بين دولة التوحيد كما كانت عليه في عهد سعود بن عبدالعزيز الأول رحمهم الله تعالى وبين طموحها إلى توحيد العرب والمسلمين على عقيدة سلفية واحدة سواء أكانوا دولة واحدة ، أم كانوا أكثر من دولة يجمعهم التعاون المشترك في الدعوة إلى الله؛ وفي جهاد الأعداء حربيا دفاعا عن الدين والنفس والموارد والمنشآت.
قال أبو عبدالرحمن : ولقد تجلى التحالف الأمريكي التركي بحملة مدحت باشا عام 1288هجريا.. وكان الملك عبدالعزيز رحمه الله تعالى يريد انتشال دولة آل سعود التاريخية من أطماع التحالف العدواني، وتوحيد أجزائها من الداخل دون أن يصطدم بنفوذ أجنبي؛ إلا أن ذلك يكن بيده؛ فهو محاصر في الداخل بعمال تركيا، ومشيخات ينطلق نفوذ بريطانيا من أرضها ؛ فكانت سياسة عبدالعزيز رحمه الله تعالى لتوحيد بلاده دون نفوذ أجنبي مزدوجة بين ثلاثة مواقف: أولها سلبي، والآخران إيجابيان؛ فالموقف الأول: هو كسر التحالف البريطاني العثماني، وإشعار بريطانيا بعدم أهميته؛ وذلك بتعهد عبدالعزيز أن لا يحرج بريطانيا بأي عمل عسكري، أو تحريك للأهالي في محمياتها؛ وهذا الجانب السلبي صوريا هو إيجابي في الحقيقة؛ لأن تلك المحميات ليست في تفكيره، وليست جزءا من دولة أجداده وإن كان رحمه الله تعالى يناور بريطانيا بحقوقه التاريخية في تلك البلدان؛ ثم هو بعد ذلك ليس في أرضية ، وليس على قوة تمكنه من محاربة بريطانيا وإجلائها عن بلدان استقبلت هذه الدولة العظمى، ووقعت في حمايتها بمعاهدات قانونية مـحرجة؛ وإنما هم عبدالعزيز أن يتفادى شرها، وأن يكون لموقفه السلبي الصوري ثمن من دعم بريطانيا المادي والسياسي، وأن يعمل على كسب ما ليس في يده بعد؛ وهو كل ما يطلق عليه الآن (المملكة العربية السعودية).. والموقف الثاني الـمباغتات العسكرية لتركيا وعمالها كضمه المنطقة الوسطى، ومباغتته للأحساء، ثم مواجهته تركيا عند ضمه الشمال.. والموقف الثالث مناورات سياسية مع تركيا وبقية الدول؛ فمع تركيا يلاينها في ظرف، ويعتب عليها ويحاجها في ظرف آخر؛ ومع بقية الدول يكسب ودها، ويقنعها بالاعتراف به، ويبين أن ما يقوم به واجب عليه؛ لإسعاد أمته، وتمدينها امتدادا لتاريخ أجداده.. وأما الظرف الثاني؛ وهو هم عبدالعزيز العربي والإسلامي خارج رقعته: فقد تجلى خلال الحربين العالميتين وبعدهما: عندما كان ذا دولة معترف بها، وعندما تحول النفوذ الأجنبي من تحالف بريطاني عثماني إلى أطماع عالمية لاقتسام كل البلاد العربية؛ وهذا الظرف مع إحساس عبدالعزيز المرهف بأن دولة الاستعمار العجوز مولية، وأن الولايات المتحدة أقوى دولة على وجه الأرض، وأن العلاقات مع بريطانيا مشوشة وغير صادقة، وأن الولايات المتحدة تتبنى بالأقوال مبادئ خيرة لو أثبتت الأيام صدقها في تنفيذها ومن تلك المبادىء حرية الشعوب، وفظ الحقوق التاريخية؛ وكل هذه العناصر جعلت عبدالعزيز يمهد لعلاقات مجدية صادقة مع الولايات المتحدة.
قال أبو عبدالرحمن: وما دام هم عبدالعزيز انتهى داخليا بتوحيد بلاده: فإنه يريد علاقة مع أمريكا لمصلحة بلاده بشرط أن لا تنال من واجبه العربي الإسلامي تجاه عالمي العرب والمسلمين؛ بل يريد أن يكون ذلك الواجب شرطا للعلاقة؛ بل كل ما كان في هذه العلاقة من مصلحة راجحة لأمريكا: فإن عبدالعزيز يدل به لخدمة واجبه.. قال (بنسون لي جريسون) [لم أعثر له على ترجمة] عن ظرف التحول من بريطانيا إلى التمهيد لعلاقات أمريكية: «لقد كانت السياسة البريطانية تجاه تلك المنطقة التي تشكل السعودية اليوم بالغة التشوش والتخبط خلال الحرب العالمية الأولى؛ فالسلطات البريطانية في الهند كانت تساند ابن سعود؛ وفي نفس الوقت كانت وزارة الخارجية في لندن تساند خصمه الملك حسين شريف مكة بإعانة مالية، وبمستشار ذي شخصية أسطورية؛ هو (لورانس العرب)؛ ولزيادة الأمور تعقيدا أكثر من ذلك: كانت الحكومة في ذات الوقت [؛ أي في نفس الوقت] منخرطة في مفاوضات سرية مع فرنسا لتقسيم الإمبراطورية العثمانية؛ [ف] حصلت بموجبها على الأولوية في العراق مقابل الموافقة على الاعتراف بالنفوذ الفرنسي على سورية ولبنان، وفي نفس الوقت أيضا وعد البريطانيون بالمساعدة على إقامة وطن يهودي في فلسطين[؛ وفي] أثناء هذه المناورات المعقدة بقيت الولايات المتحدة إلى حد بعيد واقفة على الخطوط الجانبية؛ وهو في الحقيقة نفس الموقف الذي اتـخذه الملك ابن سعود))؛ فرحم الله الملك عبدالعزيز ما أعظم حقه على أبنائه وحفدته، وعلى أسرته، وعلى رعيته وحفدتهم ما تعاقبت بهم الأيام والأعوام، فلقد آتاه الله بسطة في الجسم والعلم، وقوة في القلب، وأناة وصبر في كل معاهداته؛ وإلى لقاء في السبت القادم إن شاء الله تعالى مع بقية كلام (بنوسون لي جريسون), والله المستعان.