الرياض - خاص بـ«الجزيرة»:
التعصب جاهلية مقيتة حسمها الإسلام وقضى عليها من جذورها، وذم النبي صلى الله عليه وسلم العصبية والتعصب في كثير من أحاديثه، ومن ذلك قوله عليه الصلاة والسلام: «ليس منا من دعا إلى عصبية، وليس منا من قاتل على عصبية، وليس منا من مات على عصبية».
وفي الآونة الأخيرة انتشرت ظاهرة التعصب الرياضي مع تطور وسائل الإعلام والاتصال الجديد حيث تجد المرء يجعل ناديه الذي يشجعه خطاً فاصلاً بين أقاربه وأصدقائه وأعدائه، وأضحى التعصب الرياضي مشكلة أرقت الكثيرين داخل الأوساط الرياضية وخارجها، ولاشك أن الخطوة تكمن في تغذية نشر الفتنة والبغضاء، وزيادة الكراهية والازدراء والتمييز مما أحدث شروخاً كبيرة داخل المجتمع، وأخرجت الرياضة عن مسارها الطبيعي إلى مسار خطير في المجتمع. ومواجهة التعصب الرياضي ليست مسؤولية العاملين في القطاع الرياضي فقط بل مؤسسات المجتمع أفراداً وجماعات.
ومن هنا التقت «الجزيرة» بمتخصصين في العلم الشرعي أحدهما أكاديمي والآخر داعية ليتحدثا عن هذه الظاهرة في المجتمع المسلم.. فماذا قالا ؟!
مصالح الأبدان والقلوب
بداية، يوضح الدكتور علي بن يحيى الحدادي، رئيس قسم السنة النبوية بكلية أصول الدين بالرياض أن قوة الأبدان وصحة الأجساد وسلامتها من أسباب الضعف من المرض والهزال هو من نعم الله على العبد التي يجب عليه شكرها لأنها نعم العون على مصالح الدين والدنيا، فبها بعد توفيق الله يتمكن المسلم من القيام بالعبادات على الوجه الأكمل الذي لا يطيقه المريض والضعيف، كما أن الصحة والقوة في البدن نعم العون على مصالح الدنيا وأداء حقوق العباد إلى غير ذلك من المصالح التي لاتعد ولا تحصى مما لا يمكن أداؤها بالكلية أو أداؤها على الوجه الأكمل إلا بتمام الصحة الجسدية والقوة البدنية، والله تعالى أمتن في كتابه بهذه النعمة على من أعطاه إياها فقال عن طالوت (وزاده بسطة في العلم والجسم) وقال هود لقومه {وَاذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفَاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً فَاذْكُرُوا آلَاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ} ونوه بشأن جبريل عليه السلام فقال (ذي قوة، عند ذي العرش مكين) أي شديد الخَلْق له مكانة عند الله، ولما كانت قوة الأبدان وصحتها بهذه المنزلة جاء الإسلام وهو الدين الذي تستوعب رسالته مصالح الأبدان والقلوب ومصالح الدين والدنيا جاء بالحث على ما فيه مصلحة الأبدان والنهي عما يضرها ومن ذلك على سبيل المثال أن ديننا يأمر بالأكل من الطيبات واجتناب الخبائث لأن الطيب يغذي البدن ويقويه والخبيث يضر البدن ويوهنه، ويأمر بالاعتدال وعدم الإسراف لأن الإسراف مضر بالبدن مهلك له فقال تعالى {وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ} وأمر المسلم بإعطاء بدنه حقه من الراحة وغيرها مما يحتاج إليه البدن فقال صلى الله عليه وسلم (إن لجسدك عليك حقاً)، وفي العبادات ما فيه رياضة للأبدان وتنشيط لها كالحج والعمرة ففيهما السفر والمشي والسعي والحركة الدؤوبة، وكالصوم والجهاد وغير ذلك من العبادات، غير أنه لا يجوز للمسلم أن يؤدي هذه العبادات على أنها رياضات بدنية أو رياضات روحية لإخراج ما يسمى بالطاقة السلبية بل ينوي المسلم بصلاته وحجه وعمرته وكل عباداته التعبدَّ لله وحده والامتثالَ لأمره وابتغاءَ ما عنده، وجاء ديننا أيضاً بالترغيب في الأخذ بأسباب الوقاية من الآفات والأمراض والعوارض المؤذية فشرع أذكار الصباح والمساء والنزول والركوب وأخبر عن بعض ما يحمي من السحر والسم طيلاليوم، وجاء بالحث على التداوي من الأمراض بعد نزولها فقال صلى الله عليه وسلم (تداووا عباد الله فإن الله تعالى لم ينزل داء إلا أنزل له شفاء)،فإذا اجتمعت صحة الأبدان مع صحة القلوب بإيمانها وخشيتها واستقامتها على علم واتباع كان ذلك من أحسن ما يعطيه الله لعبده قال صلى الله عليه وسلم (المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف وفي كل خير) أي قوي البدن قوي الإيمان قوي العزيمة في الخير.
النبي القدوة
ويضيف د. الحدادي أن المتأمل في سيرة النبي - صلى الله عليه وسلم- مع أصحابه يجد أنه كما كان يعتني بقلوبهم تربية وتعليماً ووعظا ًفإنه كان أيضاً يشجعهم ويرغبهم فيما تصح به أبدانهم وتقوى به أجسادهم فأذن لسمرة بن جندب أن يصارع الغلام الأنصاري لتتبين أهليته للمشاركة في الجهاد فتصارعا فصرعه، وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أنه سابق زوجته عائشة مرتين سبقته في الأولى وسبقها في الثانية، فقال هذه بتلك، واستأذن سلمةُ بن الاكوع أن يسابق رجلاً من الأنصار من أسرع الناس عدواً فأذن له فسابقه فغلبه، وكان يسابق بين اصحابه على الخيل، ويحد لهم حدود البداية والنهاية مراعياً حال الخيل في ذلك قوة وضعفاً، وكانت له صلى الله عليه وسلم ناقة يقال لها العضباء لا تُسبق حتى جاء أعرابي يوما على قَعود له فسابق العضباء فسبقها، وكان صلى الله عليه وسلم يشجع أصحابه على الرمي بالسهام، ويقول ارموا بني إسماعيل فإن أباكم كان رامياً، وكان يقول ألا إن القوة الرمي إلا إن القوة الرمي ألا إن القوة الرمي.
التعصب الأعمى
وتطرق د. علي الحدادي إلى الرياضات المؤذية التي يقصد فيها اللاعب أذية خصمه بضربه في وجهه ورأسه والأماكن الخطرة في جسده والله عز وجل نهى العدوان فقال تعالى (ولا تعتدوا) وقال صلى الله عليه وسلم:(إذا ضرب أحدكم فليجتنب الوجه)، ومن المخالفات الشرعية ممارسة الرياضة بالملابس التي تظهر العورات حتى المغلظة منها كما يكون في الرياضات المائية والنبي صلى الله عليه وسلم يقول:(احفظ عورتك إلا من زوجتك أو ما ملكت يمينك)، ومنها مخالطة النساء للرجال مع التكشف والرقص وغير ذلك مما لا يحل للمرأة المسلمة ولا يليق بحيائها وحشمتها، ومنها التعصب الأعمى بين المشجعين لنواديهم حتى يصل بهم التعصب إلى السب والشتم والسخرية والاستهزاء والعداوة والكذب والافتراء وربما وصل إلى خراب بعض الأسر ووقوع الطلاق والتهاجر بين أهل البيت الواحد. وربما وصل إلى التحارب والتقاتل باليد والعصي والأسلحة، كما يشاهد في بعض البلدان.
ومن آثار التعصب الرياضي السيئة أن يكون الحب في النادي والبغض في النادي عليه الولاء وعليه البراء، والتعصب بكل أنواعه سواء كان دينياً أو قبلياً أو عرقياً أو رياضياً كله من المحرمات فقد برئ النبي - صلى الله عليه وسلم- من أهل التعصب فقال - صلى الله عليه وسلم-: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل على عصبية وليس منا من مات على عصبية).
وحذر د. الحدادي شباب المملكة خاصة والمسلمين عامة أن يحذروا التعصب الرياضي وغيره لأنه يوهي من متانة الأخوة الدينية ويضعف اللحمة الوطنية ويجعل الناس فرقاً وشيعاً متباغضين متناحرين والعياذ بالله، ولنحذر من كل المخالفات الشرعية التي تكتنف الرياضات، ولا تغتر بكثرة من يتساهل فيها أو يقع فيها فإنك تأتي ربَّك وحدَك ويسألك ربُّك وحدَك والله المستعان.
الدين الخير
وبدأ الدكتور محمود بن محمد المختار الشنقيطي، عضو الدعوة والإرشاد بمكة المكرمة مشاركته بموقف تأريخي للاعب الجودو المصري ((محمد علي رشوان)) يوم كان في بطولة الجودو وأمامه اللاعب الياباني بطل أبطال العالم في الجودو ((ياماشتا)) في البطولة النهائية بين مصر واليابان، حيث لعب رشوان مباراة بعد الأخرى وفاز في كل مباراة باكتساح من أمامه، وفوجئ الجميع أن ابن مصر سيلعب المباراة النهائية، ومصر لأول مرة في التاريخ في طريقها إلى الفوز بميدالية أوليمبية، إما ذهب أو فضة، وبدأت الجرائد تكتب، والإذاعات تتكلم والتلفزيون يهلل باسم البطل، وبسرعة البرق عرفه كل المصريين، ونُقلت المباراة النهائية على الهواء مباشرة، وسهر الشعب المصري والعربي يتابع ويدعي للبطل الإسكندراني، ليكسب الميدالية الذهبية، بالرغم أن خصمه كان بطل أبطال العالم الياباني الرهيب ياماشتا..
لكن، ومع بداية المباراة لاحظ المتابعون شيئا غريبا جداً، فقد كان رشوان كان في الالتحام مع خصمه لا يضربه في رجله .!، وذلك عجيب في لعبة الجودو..!!!، وقد خسر كذا نقطة،!!!
وهنا سمع العالم كله صراخ مدرب رشوان وهو يقول له: «اضربه في رجله الشمال..
اضربه في رجله الشمال وهات الدهب لمصر»، لكن كانت إجابة رشوان أنه رفض!، ولم يحاول حتى أن يحرز نقطة بهذه الطريقة. وفازت اليابان بالذهبية، وفازت مصر بالفضية.. طبعًا الجمهور العربي والمصري كان في غاية الحزن على ضياع الذهب، ولم يفهموا لماذا رشوان لم يلعب بقوة، وكان متراخيا ورفض تنفيذ تعليمات مدربه!!، لكن سرعان ما أقيم المؤتمر الصحفي ووقف صحفي أجنبي يسأل محمد: لماذا لم تنفذ تعليمات مدربك؟
فرد رشوان وقاله: وصلتني معلومة مؤكده أن البطل الياباني مصاب بقطْع في الرباط الداخلي للركبة اليسرى، وأن أي ركلة قوية فيها يمكن أن تدمرها تماما، ولكنه أخفى الخبر، وقرر اللعب والتضحية لأنه يمثل وطنه، وهنا سأله نفس الصحفي: ولكنها كانت فرصة عظيمة، وكان أولى أنك تفوز!! لماذا لم تستغل الفرصة وتحقق الذهب لبلدك؟ وهنا كان الرد التاريخي لمحمد رشوان لما قاله: «ديني بيمنعني إني أضرب مصابا وأهدد مستقبله من أجل ميدالية!».
في هذه اللحظة وقف الجميع يصفقون طويلًا للبطل الإسكندراني المسلم، وبعدها كرمته اليونسكو على تلك الأخلاق العظيمة، واختير كصاحب أفضل أخلاق رياضية بالعالم، ومنحته اللجنة المنظمة ميدالية ذهبية فخرية لكونه يستحقها فعلا وذاع صيته في العالم كله، وكرمه «اليابانيون» بشكل خاص واستقبلوه في زيارته بعد ذلك لليابان كملك متوج، وبعدها بدأ الملايين يبحثون عن هذا الدين العظيم الذي يأمر من يعتنقه بتلك الأخلاق الكريمة.
التعصب المقبول
ويضيف د. الشنقيطي أن البيانات والإحصائيات تشير إلى أن هناك أكثر من خمسين ألف شخص حول العالم أعلنوا إسلامهم بسبب هذا الموقف، ومن ضمن من أعلنوا إسلامهم كانت «ريكو»، تلك الفتاة اليابانية التي أحبته وأحبها وتزوجا بالفعل، لتنجب له علي وعمرو وعلياء، ويعيشوا جميعًا بالإسكندرية بعد أن أصبح فيما بعد حكمًا دوليًا مرموقًا وعضوًا في الاتحاد العالمي للعبة ورجل أعمال إسكندراني، وربما لو كان رشوان قد فاز بالذهب لما كان حصل على نصف ما ناله من تكريم وتقدير وحب في قلوب العالم، وفي ميزان صحيفته من أسملوا بسبب موقفه وإصراره على عدم التخلي عن مبدئه ودينه وقيمه وأخلاقه، مؤكداً أن التعصب الرياضي الذي يشرفنا هو التعصب للعبة الجميلة والفنيات الرائعة التي لا تنفك عن الدين وعن الخلق والقيم حال اللعب والتشجيع، فتزيد الأواصر وتقويها بين أفراد الأسرة ترابطا وتكاتفا وتلاحما لا طلاقا ولا ظهارا وسبا وشتما وتشتتا وتمزقا بسبب عقد الولاء والبراء على فريق أو لاعب، فينحرف مسار الولاء بدلا من أن يكون في الدين ولله سبحانه!! التعصب المقبول هو اللفتة الجميلة التي تلفت نظرك في المدرجات إلى إقامة الصلاة بين الشوطين إقراراً للحكمة والعلة التي خلقنا الله من أجلها وهي عبادة الله وأداء الصلاة منها (وما خلقت الجن والإنس إلا ليعبدون)، التعصب الرياضي الذي ندعوا إليه هو: التعصب والحميّة للحفاظ على المباني والمنشآت والمقدرات الوطنية من التخريب في حالة سكر ردات الفعل عند بعض المشجعين فرحا أوانتقاما وغضبا لنتيجة فريق، أرى التركيز على (القـِيَم) تذكيرا بها في دروس ومواد التربية الرياضية، بين أشواط المباريات، وفي الصفحات والمجلات الرياضية، فإنها أعظم حلول مشكلة التعصب الرياضي غير المنضبط، ويوم تكون القيم رائدا للرياضيين لاعبين ومشجعين وإداريين فإننا مجتمع حضاري سويّ مؤمن، وتختفي هذه الصور القاتمة والممارسات الظالمة وإلا فعلى الرياضة السلام.